مهداة: إلي الشهداء من المسلمين والأقباط في تلك اللحظة شعور غريب يجتاحني.. يحثني بل يطالبني بشدة وفي إلحاح شديد بالخروج الآن من محبسي هذا.. لماذا...؟!! أنا لا أدري.. أعلم جيدًا أني محبوس. وأقيم وحدي إقامة جبرية في مكاني هذا منذ شهور. ما أقساها من وحدة وألم وأنت تجلس وحدك لتقضي فترة محددة من سجنك الانفرادي.. تجلس وحدك دون أنيس أو جليس لتتحدث مع نفسك كثيرًا دون أن يسمعك أحد.. دون أن يعترضك أحد. ورغم كل هذا وأكثر منه لكنني سعيد.. نعم سعيد.. أري علي وجوهكم علامات كثيرة من الاستفهام.. لحظات وسوف أوضح لكم لماذا أنا سعيد...؟!! لأنني أتمتع بكافة حقوقي كإنسان.. يقدم إليَّ كل يوم أطعمة مختلف الأشكال والألوان والنكهات.. طعام طازج وساخن كل يوم بشكل وطعم مختلف عن اليوم الذي سبقه. وعن اليوم الذي يليه. أعلم أنكم الآن تكادون تتهمونني بالجنون أو أنني أسخر من محبسي الانفرادي.. أبدًا.. أقسم أني عاقل.. عاقل جدًّا.. جدًّا.. أقسم أني لا أسخر منكم أو من نفسي أو من محبسي هذا.. صدقوني فيما قلته لكم. وعليكم أن تصدقوني فيما أقوله لاحقًا.. صدقوني عندما أقول لكم إنني آكل في محبسي هذا جميع الفواكه الصيفية والشتوية.. ما لكم تحدقون هكذا في وجهي...؟!! أقسم أن هذا ما يحدث.. يحدث بالفعل فأنا لستُ أمام كاميرا فيديو خاصة بإحدي القنوات الحكومية تسجل وتبث أحوال المساجين أمثالي علي الهواء مباشرة. لأكون مضطرًا لقول هذا الكلام خشية معاقبتي بعد ذلك.. لا. بل هذا ما حدث ويحدث بالفعل. وأقسم بالله علي ذلك. وأحب أن أزيد علي هذا أني أعرف كل ما يحدث بالخارج من زيادات جنونية مستمرة في الأسعار. وأعرف أيضًا الصراعات الدائرة في بعض الدول العربية من جراء ثورات الربيع العربي من خلال نشرات الأخبار. بل وأسمع الأغاني التي تبث سواءً من الراديو أو التليفزيون. إي والله. لا.. لا لستُ ابن وزير.. وهل يعقل يا سادة أن يحبس في بلدنا هذا ابن وزير...؟!! وأزيدكما عجبًا واستغرابًا أنني أسمع أفلام كثيرة القديم منها والحديث.. لو سمحتم أود أن أؤكد عليكم أني أسمع أفلام كثيرة كل يوم دون رؤيتها. لا أنا لستُ بسجين سبعة نجوم كما تقولون.. أنا إنسان بسيط مثلكم تمامًا.. أبي موظف بسيط في إحدي المصالح الحكومية المصرية. وتحديدًا هو علي الدرجة الثالثة في طريقه لأخذ الثانية من فضلكم ادعوا معي أن يأخذها سريعًا. وأمي يا سادة امرأة مكافحة تحب بلدها جدًّا.. جدًّا.. وتحب أن تكون أفضل من غيرها في تحصيلها العلمي التي تحسرت عليه.. نعم هي تقول هذا كلما نظرت إلي تلك الشهادات التي تجلس في شموخ علي أحد حوائط بيتنا. وذات يوم رأيتها وهي تلملم تلك الشهادات التي تحصلت عليها لتضعها في كرتونة ثم تضعها تحت السرير. وهي تحدث نفسها في ألم وحزن شديدين: "سوف نلتقي يومًا ما" فأمي يا سادة خريجة آداب لغة عربية. وأخذت بدلًا من الدبلومة ثلاثا. ومعها أيضًا ماجستير في اللغة العربية. وأشياء كثيرة تحصلت عليها ذاكرتي لا تسعفني لذكرها الآن. ورغم هذا هي تعمل عند أبي وعندي ست بيت مقابل أكلها وشربها وكسوتها الصيفية والشتوية فقط. ورغم كل ما حدث ويحدث لأمي من اكتئاب وأحزان وإحباط وانكسارات متتالية لكنها لم تزل متفائلة.. نعم هي كذلك.. آه.. نسيتُ أن أذكركم يا سادة بشيء مهم بل هو في غاية الأهمية.. نسيتُ أن أخبركم سيداتي وسادتي أن أمي قبطية.. نعم أنا من أسرة قبطية. بل بيتنا هو البيت القبطي الوحيد في العمارة المكونة من خمسة أدوار. وفي كل دور شقتين. ورغم هذا نلقي كل حب وتقدير واحترام من جميع سكان العمارة. ليس بيننا مسلم أو قبطي.. أولسنا جميعًا مصريين...؟!! أمي تجمع أطفال العمارة لتعطيهم درسًا في اللغة العربية في شتي مراحلهم العمرية.. تعطيهم درسًا دون أن تأخذ أي مقابل مادي.. المقابل الوحيد الذي تأخذه أمي وتتمني/نتمني ألا ينقطع أبدًا هو حب جميع الأطفال وآبائهم لأمي. بل لجميع أفراد بيتنا. أتريدون إثباتًا أكثر من هذا أني والله العظيم لستُ ابن وزير. ونعيش في بيت مكون من ثلاث حجرات بالدور الثاني العلوي وتجلس معنا وبيننا جدتي من أمي صاحبة الشقة. وجدتي سيدة طيبة ومسالمة إن قلت لها إن السماء سوف تمطر اليوم تصدق علي الفور رغم علمها أننا في شهر أغسطس. هذه عائلتي يا سادة وهذا بيتنا. اسمحوا لي أن أعود لأحدثكم عما يحدث معي في محبسي.. لكم أن تتخيلوا أن هناك كشفًا دوريًّا عليًّ عند طبيب مشهور.. إي والله هذا ما يحدث.. ولكم أن تتخيلوا أنه يُجري عليًّ شتي الكشوف وأنا هنا داخل محبسي.. خذوا هذه أيضًا أني أشرب جميع أنواع المشروبات الساخنة من شاي ولبن وحلبة ونسكافيه وسحلب وخلافه. واشرب أيضًا جميع المشروبات الباردة من عصير قصب ومانجو وبرتقال وليمون وجوافة وغيرها من العصائر.. أسمع منكم من يقول إنني في حلم. وبعد دقائق سوف أفاجئكم بصحوي لأعلن علي الملأ أن جميع ما قلته ما هو إلا أضغاث أحلام فقط لا غير. وتوته توته فرغت الحدوتة حلوة ولا بنوتة.. صدقوني إنني مستيقظ. وأن ما أقوله هو عين الحقيقة.. الحقيقة بعينها. تخيلوا رغم كل هذا أنا أعد الساعات والأيام والأسابيع المتبقية لي داخل محبسي الذي أجبرت عليه حتي أخرج وأنعم بالحرية مثلكم تمامًا.. أسمع من يقول منكم: أبعد كل ما تقوله.. أبعد كل ما يقدم لكِ من خدمات مميزة غير موجودة لأحد منا أو لمعظمنا.. أبعد كل هذا كله تريد الخروج.. كيف؟!! ولماذا...؟!! تمام معكم حق فيما تقولونه. لكن أوليس هذا حقي الشرعي؟!! أوليس لكل مسجون أن يأتي عليه يوم ويخرج من محبسه؟!! إذا كنتم جميعًا تهزون رءوسكم من أعلي إلي أسفل ثم العكس علامة علي صحة كلامي. فلماذا ترفضون خروجي؟!! لماذا تستكثرون عليَّ هذا الخروج؟!! شعوري الغريب والملح الذي يطالبني بالخروج من محبسي الآن راح يزيد من إلحاحه عليًّ. حتي وجدتني أصرخ فيه بشدة: ماذا عليَّ أن أفعل...؟!! الخروج من محبسي الآن ليس بإرادتي.. كما أن دخولي إليه لم يكن بإرادتي.. أتعي ما أقوله جيدًا...؟!! أزيد عليك وأؤكد أن سجني الانفرادي الجبري هذا مرهون بفترة زمنية محددة. مر منها ما مر من ساعات وأسابيع وشهور أعرف عددها تمامًا كما أعرف عدد الساعات والأسابيع والشهور المتبقية لي هنا في محبسي.. صدقني لو كان أمر خروجي بيدي ما تقاعست لحظة واحدة في اتخاذ هذا القرار.. تخيل لو أنني رفضت مثلًا تناول طعامي.. هل تعتقد أن سجاني سوف يتركني أفعل ذلك...؟!! لا. إنه يحبني بشدة. ويخاف علي روحي أكثر من روحه. ولن يسمح لي بفعل ذلك.. أتريدني أن أهرب من محبسي هذا...؟!! صدقني لن أستطيع الهروب. فهناك أسوار قوية وعالية تحيطني من كل جانب كما تري. ثم لك أن تعلم أني في اشتياق شديد للخروج من هنا.. أتدري لماذا...؟!! حتي أري وجه أمي الذي غاب عني طيلة فترة محبسي هذه.. تري ماذا ستفعل معي أمي عندما أخرج أنا.. أنا ابنها الوحيد الذي غاب عنها طيلة تلك المدة...؟!! تري هل ستبكي من شدة الفرح...؟!! تري هل ستقبلني قبلة واحدة أم عدة قبلات سريعة متتالية...؟!! أخشي عليها أن يرتفع السكر عندها فجأة لحظة خروجي ودخولي عليها والجلوس بين يديها.. تري من منا سيقبل الثاني أولًا...؟!! أنا أم أمي...؟ تري من سيحضن الثاني أولًا...؟!! أنا أم أمي...؟ لا يهم المهم أن يأتي موعد خروجي. وبعدها أترك المشهد الذي سوف تقوم بتأليفه وإخراجه الأيام.. تلك الأيام التي أبعدتني عن أبي العزيز الغالي الذي افتقدت رؤية وجهه مرغمًا.. هذا الرجل الذي يتضرع دومًا إلي الله أن أخرج إليه من محبسي هذا سالمًا غانمًا.. كاملًا غير منقص.. أعلم أبي العزيز أنك مشتاق إليَّ أكثر بكثير من اشتياقي إليك.. أتدري ما دليلي علي هذا يا أبي...؟!! هو مدي اشتياقك ولهفتك علي خروجي حتي تخبر جميع الأهل والأصدقاء والجيران بموعد خروج ابنك الوحيد.. أوليس كذلك يا أبي العزيز...؟!! جدتي آه يا جدتي أحب فيكِ كل شيء طيبتكِ الزائدة. خوفك وحبك الشديد عليَّ.. دعواتك الدائمة التي أسمعها هنا في محبسي.. تدعين الله ليل نهار أن يطيل في عمرك فقط حتي تريني.. تريني وبعدها تقابلين وجه ربك الكريم. أمي.. أبي.. جدتي.. سامحوني.. غيابي عنكم ليس بإرادتي.. أعلم جيدًا أني سببت لكم كثيرًا من الإرهاق والتفكير الزائد علي الحد.. أعلم هذا جيدًا بسبب غيابي. ولكني في النهاية سوف أخرج إليكم. أعدكم بهذا إن شاء الله.. سوف أخرج لتخرج ضحكاتكم من محبسها. وتنهال عليَّ قبلاتكم قبلات ملأي بالحب والإخاء والسلام.. كم أنا مشتاق لرؤية العالم الخارجي الذي غاب وتغيبتُ عنه مرغمًا.. عذرًا.. أريد قليلًا من الصمت.. نعم قليل من الصمت حتي أسمع جيدًا وأستبين لهذه الأصوات الكثيرة المتداخلة التي راحت ترتفع وترفع بشدة من خارج محبسي.. هناك فوضي شديدة. وهذا غير مسموح به هنا. ولم يحدث من قبل.. أصوات صراخ وبكاء وعويل تتداخل بشدة.. تعزف لحنًا حزينًا لم أسمعه من قبل.. دقات قلب أمي الدافئ الذي كان يؤنس وحدتي هنا في محبسي لم أعد أسمعه.. أشعر أني خرجتُ من محبسي الواسع جدًّا.. جدًّا إلي مكان ضيق جدًّا.. جدًّا.. "إرهابي فجر نفسه هنا داخل الكنيسة" هكذا سمعتُ إحدي النساء تقولها في ألم وحزن.. لقد اندفعتُ خارجًا من محبس بطن أمي بفعل انفجار بطنها.. أنا الآن عاري متدلي من حبلي السري.. ذلك الحبل الواصل/الرابط بشدة بيني وبين أمي التي تسبح هي وغيرها في بركة من الدماء.. أمي التي لا تبعد عني سوي شبر واحد أو اثنين علي الأكثر.. أنا الآن مستلقي علي ظهري فوق بلاط "الكنيسة البطرسية" التي دخلتها أمي بصحبة أبي وجدتي كي تدعو ربها كما تعودت أن تأتي إلي هنا كل أحد.. تدعو في حرقة شديدة ومعها أبي وجدتي أن أخرج إليهم من محبسي سالمًا غانمًا.. كاملًا غير ناقص.. وجدتني أنظر إلي أمي التي لم تزل تنظر إليًّ في سعادة باسطة يديها عن آخرهما تود أن تضمني إلي صدرها.. أن تقبلني.. ها هي أمي جثة هامدة وبجوارها ومن حولها جثث كثيرة.. أنفاسي الخارجة مني راحت تضيق عليَّ شيئًا فشيئًا.. ها هو الموت يقترب ويقترب مني بشدة باسطًا ذراعيه تبسمتُ مرحبًا به أتدرون لماذا يا سادة...؟!! لأني سوف أنام في حضن أمي.. أنا وهي داخل محبسنا الانفرادي الأبدي الذي لا يشاركنا فيه أحد. x