قال الله سبحانه وتعالي في محكم آياته: "وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" "الفرقان: 63". وقال سبحانه: "ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا" "الإسراء: 37". وقال: "ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور" "لقمان: 18". وقال: "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين" "الشعراء: 215". تؤكد هذه الآيات علي خلق التواضع والبساطة. وهما من أمهات الأخلاق في الإسلام. فالبساطة كقيمة أخلاقية تعني التوافق مع الفطرة الإنسانية وعدم معاندتها بالوقوف دون تلبية حاجاتها الفطرية باتزان وسهولة. وكان النبي صلي الله عليه وسلم مثالا حيا للبساطة في معيشته ومسكنه ومأكله وملبسه. فعن بساطة مسكنه وفرشه قالت عائشة رضي الله عنها: كانت ضجعة "أي فراش نوم" رسول الله صلي الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف. وقالت: كان وسادة رسول الله صلي الله عليه وسلم التي ينام عليها بالليل من أدم حشوها ليف. "سنن أبي داود". وفي ذلك بيان لبساطة عيش رسول الله صلي الله عليه وسلم واستخدامه لأشياء متوفرة في البيئة. مع ما يعكس ذلك من تواضعه ورضاه من الدنيا بالقليل. وفي ظهور ذلك الأمر في حياة النبي صلي الله عليه وسلم تربية وتدريب بواسطة القدوة العملية. فرسول الله لم يأمر أصحابه ان تكون وسائل معيشتهم بسيطة ولكنه قدم القدوة في ذلك. إن بناء الحضارات الكبار يبدأ دائماً من امتلاك الأدوات والمواد الأولية وحسن استخدامها في العيش. والعمل علي تنمية هذا الاستخدام خطوةخطوة. ولذلك فإن امتلاك الأشياء المرفهة في حياتنا والتي جاءت من نتاج وإبداع حضارات أخري لا يعني امتلاكنا للحضارة. بل ربما يجعلنا أسري لتلك الأشياء. حتي إننا نتجمد دون التفكير في إبداع مثلها أو فهم أسرارها. والبساطة تعني استخدام المواد الأولية المتاحة لدينا فعلاً. وعدم تبديد الموارد الأرضية أو الطبيعية. واحترام المواد الأولية البسيطة من ماء وتربة وأشجار فعن ابن عباس قال: تصدق علي مولاه لميمونة بشاة. فماتت. فمر بها رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: "هلا أخذتم إهابها "أي جلدها" فدبغتموه فانتفعتم به". فقالوا: إنها ميتة. فقال: "إنما حرم أكلها" "رواه الشيخان". وأما عن بساطة مطعمه ومشربه فقد قالت عائشة: إن كنا آل محمد صلي الله عليه وسلم لنمكث شهراً ما نستوقد بنار. إن هو إلا التمر والماء. "أخرجه مسلم". وعن أبي هريرة قال: ما عاب النبي صلي الله عليه وسلم طعاماً قط. إن اشتهاه أكله. وإن كرهه تركه "أخرجه البخاري". وعن جابر بن عبدالله ان النبي صلي الله عليه وسلم سأل أهله الأدم فقالوا: ما عندنا إلا خل. فدعا به فجعل يأكل به ويقول: "نعم الأدم الخل نعم الأدم الخل" "أخرجه مسلم". وفي حديث هند بن أبي هالة يصف شمائل النبي صلي الله عليه وسلم قال: "دمث ليس بالجافي ولا المهين "أي ليس بالغليظ الخلقة والطبع". يعظم النعمة وإن دقت. لا يذم منها شيئاً. لا يذم ذواقاً ولا يمدحه". وفي رواية غيره "لم يكن ذواقاً ولا مدحة. ولا تغضبه الدنيا وما كان لها. وإذا تعوطي الحق "أي إهمال الحق بجراءة شديدة" لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتي ينتصر له. ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. "رواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه الترمذي في الشمائل المحمدية". وقد فقه السلف الصالح أهمية خلق التواضع عن النبي صلي الله عليه وسلم. فيقول أبوبكر الصديق رضي الله عنه: "وجدنا الكرم في التقوي. والغني في اليقين. والشرف في التواضع" "أورده الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين". وعن ابنته عائشة رضي الله عنها قالت: "تغفلون أفضل العبادة: التواضع" "أخرجه وكيع في الزهد". وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "من تواضع لله تخشعا رفعه الله يوم القيامة. ومن تطاول تعظماً وضعه الله يوم القيامة" "أخرجه وكيع في الزهد". ويلخص ذلك كله ما جاء في مدارج السالكين من قول إبراهيم بن شيبان: "الشرف في التواضع. والعز في التقوي. والحرية في القناعة".