بداية أعتذر لمن يقرأ هذه الكلمات لأنني اقتحمت حياته.. وربما أدي ذلك إلي الانخراط في حالة الحزن التي فرضتها عليه فرضا.. وربما أصابته الكآبة من وقع الكلمات الحائرات.. لذا أرجو قبول اعتذاري. كان بالأمس القريب يساعدني في إخراج هذه الصفحات إلي النور.. وكنت أنتظر اتصالا منه كل صباح حيث كان يحب أن يذهب إلي عمله بمؤسسة دار التحرير مبكرا قبل مواعيد العمل الرسمية.. وكان في أغلب الأحيان يوقظني من النوم ليسألني السؤال المعتاد: هل أنجزت شيئا..؟! ثم يعرض عليَّ المساعدة بحب فقد كان ودودا بشوشا كالنسيم لا تشعر معه بضجيج.. لكنه كان يسعدك مجرد وجوده.. ولن أقول أبدا إلا ما يرضي ربي: "إنا لله وإنا إليه راجعون". هذه هي الدنيا بحلوها ومرها.. فقد فقدت هذا العام اثنين كانا ولايزالا يحتلان مكانة ومكانا مضيئا في قلبي.. وبرحيلهما أظلم.. فقد بدأ هذا العام برحيل "أمي الغالية" التي أستعد هذه الأيام لإحياء ذكري مرور عام علي رحيلها.. وتركت جرحا غائراً.. ومن مجريات الأحوال وبوادر الأمور ومسارها خلال الأشهر الماضية ومنذ رحيلها في مثل هذه الأيام يمكنني القول بأن هذا الجرح أبدا لن يندمل. .. وفي طريق الحياة مررنا بأحداث كثيرة خلال العام منها ماهو موجع ومؤلم ونحمد الله عليه.. والقليل منها مفرح.. ولا ولن نقول إلا الحمد لله إيمانا منا بالله وبأن كل شيء في هذه الحياة إنما هو بقدر. إن الجراح كثيرة ولا يعلم السر وما أخفي إلا الله سبحانه.. ولكل منا صديق مقرب يحب أن يفضي إليه بهمومه كلها أو بعض منها.. ويسر إليه بها وربما يهمس في أذنه أحيانا ببعض مما لايبوح به أو يطلع عليه غيره من الناس. كان لي مثل هذا الصديق الصدوق.. وقد أبي هذا العام أن يرحل دون أن يحرمني من كل ذلك ومنه.. نعم.. أبي أن يرحل إلا وقد أوغر في جرحي القديم وتوغل فيه بقسوة وكأنه علي موعد واتفاق مع القدر ليقضي علي البقية الباقية من روحي.. فلم يعد لحديث الروح وجود.."حديث الروح" الذي كنت أسري به عن نفسي.. والذي كان قد انتقلت ولايته من أمي عليها رحمة الله إلي صديقي "هاني خليل". لقد كان لطيفا كالنسمات العليلة.. وذات يوم قريب وكان "الخميس" 26 من نوفمبر الماضي كنت فيه صائما وكنت أجهز لهذه الصفحات التي هي بين أيديكم الآن ومثلها وكان من المفترض أن يتم نشر صفحات منها في عدد "الإثنين" 30 نوفمير الماضي بمناسبة تولي الأستاذ طارق عامر منصب محافظ البنك المركزي.. وكان "هاني خليل" يساعدني ويدفعني دفعا لإنجازها بكل الحب والصدق والتفاني والإخلاص ذلك لأنه كان ضميرا حيا يمشي علي قدمين. كنا نتحدث خلال الأسبوع الأخير في كل يوم عشرات المرات أغلبها عن طريق الهاتف.. وكنت عصبيا كعادتي وقت تجهيز الصفحات.. وكان هو بردا وسلاما يخفف عني ويروح عن نفسي.. ومضي اليوم الأخير وقد تكلمنا فيه ما يزيد علي 20 مرة ثم قبل المغرب ترك لي الفرصة لأفطر وأنام قليلا حيث لم أنم من اليوم السابق عليه لأصحو علي رنات التليفون تخترق مسامعي كالحلم وكان المتصل زميلنا العزيز "أشرف عبد المنعم" حفظه الله صاحب الروح الجميلة وخادم الجميع من المهد إلي اللحد والذي يمكننيا الإدعاء بأنني أجيد قراءة ما وراء نبرات صوته وكما يقول المثل الشائع "كثرة النواح تعلم البكاء" فقبل أن ينطق سألته: من الذي مات..؟!! قال: إنه حبيبك "هاني خليل" مات في حادث وهو في طريقه إلي منزله.. فنزل الخبر عليَّ كما الصاعقة التي لم أذقها في حياتي إذ ربما عندما ماتت أمي كانت الفاجعة كبيرة لكني كنت أنتظر بعد أن رأيت علامات تيقنت من خلالها أنه قد حان موعد رحيلها وقد نطقت هي بذلك لكنه ألم الفراق . .. لكن فاجعة "هاني خليل" كانت مفاجأة ثقيلة بكل المقاييس "مع علمي وإيماني بأن الموت يأتي فجأة".. وقد آلمتني كثيرا.. ومن وقتها أصبح "هاني" مجرد ذكري.. فأصررت علي توديعه بالقرآن والسنة.. ذهبت لأراه وأودعه ووقفت علي غسله وتجهيزه ودعوت الله له بالتثبيت عند السؤال.. ومن يومها أصبحت أدعو له في كل صلاة كما أدعو لأمي وسأظل هكذا ماحييت: " اللهم إني أسألك أن تغفر لأمي ولأخي في الله هاني خليل ذنوبهما.. وتجاوز عن سيئاتهما.. وزد في حسناتهما.. وأدخلهما الجنة بسلام يارب العالمين.. اللهم آمين.. فهذه هي الحياة.. ورحم الله "هاني خليل".. و"إنا لله وإنا إليه راجعون".