حتي لوكان صوتك أشد عنفاً وقسوة من أنكر الأصوات. التي هي أصوات الحمير. فلا تيأس . يمكنك أن تصبح مطرباً درجة أولي تتهافت عليك الجماهير من كل حدب وصوب. وتقف الفتيات . خاصة المحجبات .في طوابير بالساعات للحصول علي توقيعك علي كتاب تافه أصدرته لمجرد أنك المطرب فلان الفولاني. ولاتيأس إذا كنت لا تمتلك أي موهبة في كتابة الشعر أو حتي الزجل . ستصبح شاعراً كبيراً وتقيم ندوات أو كما يسميها المتنطعون ¢ حفلات شعرية ¢ وبتذاكر دخول . وسيقف أيضاً المواطنون المحبطون العدوانيون في طوابير للحصول علي تذكرة لدخول حفلتك حتي يتباهوا علي غيرهم بأنهم كانوا في حفلة الشاعر فلان الفولاني. كل ماتريد تحقيقه .الآن أصبح سهلاً وبسيطاً . ماعليك إلا إنشاء صفحة علي فيس بوك وتضع عليها ماتعتقد أنه شعر أو غناء . وتأكد أنك ستحصل علي لايكات وتعليقات إيجابية غير مسبوقة ستدفع معدي الفضائيات السكة إلي السعي وراءك لتكون ضيف حلقة مع الأستاذة لميس الحديدي أو الأستاذة مني الشاذلي وغيرهما من المذيعين والمذيعات المنبهرين والمشدوهين أمام أي نفر انتشر واتمعر علي فيس بوك. أحدثك مثلاً عن شعر العامية الذي يعد . من وجهة نظري . إبداع مصر الأسمي والأعلي . راجع كتابات بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وسيد حجاب ومجدي نجيب .وعبدالرحيم منصور وأغاني مرسي جميل عزيز وعبدالفتاح مصطفي وسواهم لتدرك أن شعر العامية المصرية. خاصة بعد تحقيقه نقلة نوعية منذ آوخر الثمانينيات علي يد مجموعة من الشعراء قد وصل إلي مرحلة من النضج والتطور تجعله يقف علي رأس الفنون والآداب المصرية كافة .وأذكر من هؤلاء الشعراء الراحل مجدي الجابري . ومسعود شومان . ومحمود الحلواني . ومدحت منير . وابراهيم سلامة . والراحل خالد عبدالمنعم وسواهم من شعراء هذا الجيل . ما الذي حدث لهذا اللون من الإبداع في السنوات الأخيرة ؟ تراجع تماماً . بحيث يمكنك القول .وأنت مطمئن ان هناك ردة الآن في شعر العامية . ردة تجاهلت تماماً المنجز الذي حققه ولم تقم بالبناء عليه . وانتصرت للسهل والمباشر والفج والجماهيري علي حساب الجمالي والعميق والمتأمل. لماذا ارتد شعر العامية بعد أن انحرف شعراؤه المجيدون عن الطابور الذي يقف فيه الآلاف ويكتبون كما كتب الأقدمون .وكتب هؤلاء المنحرفون قصيدتهم التي شقت لها طريقاً يخصها وحدها؟ ظني أن الميديا هي السبب . الإعلام سواء المرئي أو الالكتروني . فرض نوعاً تافهاً من هذا الشعر وأعلي من قيمة كتابه . فراح كل من يريد أن يصبح شاعراً له حضور جماهيري يكتب علي نفس النمط الذي يكتب عليه شعراء الميديا. في إحدي الأمسيات وجدت شاباً صغيراً يمسك بالميكرفون ويتحرك يميناً ويساراً ويثني جسمه للأمام ثم للخلف . وأحياناً يجلس علي ركبتيه وهو يلقي ما يعتقده شعراً . فسألته ¢ أنت بتعمل كده ليه ؟¢ أجاب أصل أنا مثلي الأعلي الأستاذ هشام الجخ!!!!!!!! فرض الإعلام علي الناس نماذج رديئة من الشعر والشعراء. فصارت أي كتابة جديدة ومختلفة غريبة بين أوساط الجماهير التي تم تشويهها وتزييف وعيها . الجماهير التي تبحث عن المباشر والسطحي. يحدث ذلك في السينما والمسرح وأغلب الفنون . أفلام البلطجة والدعارة والعنف هي الأعلي إيراداً. وكل من يريد صناعة فيلم جيد لايجد منتجاً يمكنه المغامرة لأن السوق ضد الجودة أساساً. ما يسري علي السينما الآن يسري علي الشعر. تريد أن تصبح منتشراً وجماهيرياً فعليك بالتهييس. أما إذا كنت تريد كتابة نص جديد تقبض فيه علي روح الشعر . فاقبض براحتك ولكن اقرأ ما تكتبه علي الست الوالدة ولاتنشد جمهوراً أو حتي ناشراً يتحمس لكتابتك. وحتي لانظلم الناشرين جميعاً فإن هناك بعض المؤسسات التي مازالت تتحمس للكتابة المختلفة مثل هيئة قصور الثقافة وهيئة الكتاب . وبعض دور النشر الخاصة المحترمة التي يتولاها مثقفون أساساً مثل ميريت والأدهم والعين وغيرها. في الفترة الأخيرة شاركت في تحكيم عدة مسابقات شعرية كبري. وكنت وأعضاء اللجنة نعاني أشد المعاناة في اختيار شاعرين أو حتي شاعر. من بين أكثر من ثلثمائة أو حتي أربعمائة شاعر تقدموا للمسابقة. لمنحه الجائزة. وفي بعض الأحيان كنا نضطر إلي منحها لشعراء نحن غير مقتنعين بهم أساساً . لكنهم أحسن الوحشين. وفي هذه المسابقات أيضاً كنا نسأل شعراء العامية عن قراءاتهم ومن من الشعراء قرأوا له أو تأثروا به . وكانت الإجابات صادمة . فأغلب المتسابقين لم يقرأوا لا لفؤاد حداد أو جاهين أو بيرم . وحدث عن شعراء الأجيال اللاحقة ولاحرج . ذات مرة كان معي في لجنة التحكيم الشاعر الكبير ماجد يوسف الذي أصدر حتي الآن خمس عشرة ديواناً. وقرأ أحد المتسابقين قصيدة مأخوذة نصاً من ديوان ماجد. وكانت المفارقة أنه لايعرف ماجد ولم يسمع به أصلاً وأنه حصل علي القصيدة منشورة باسم واحد من الشعراء المدعين علي فيس بوك.. في كده في الدنيا؟؟؟ باختصار شديد فإن شعر العامية يشهد الآن ردة غير مسبوقة تهدد وجود هذا اللون من الإبداع أو علي الأقل تجعله محلك سر . ولا أخفيك أن بعض الشعراء المجددين أساساً ارتدوا هم الآخرون مجاراة للكتابة الرديئة التي تملأ الأفق . وإن كنت تلمح في كتابات هؤلاء نفساً شعرياً يؤكد أنهم موهوبون حقاً . لكنهم أصبحوا مثل الممثلين الذين يخشون القعدة في البيت فيضطرون إلي العمل في أفلام رخيصة لمجرد التواجد وخلاص.