«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح جاهين .. حدوتة مصرية برائحة طين الأرض
نشر في محيط يوم 25 - 12 - 2007


حدوتة مصرية برائحة طين الأرض
محيط - هاني ضوًه

لأن الحياة خليط عجيب من المتناقضات .. من حُبٍّ وحربْ .. من ألمٍ وأملْ .. من نارٍ ونورْ .. كان صلاح جاهين وليداً لهذا الخليط، وأتت رباعياته الجميلة لتخط لنا قصة الإنسان المعبأ بكل تناقضات الزمان فهو البسيط الساخر .. اكتشف حكمة الشعب في رباعياته .. وأرخَّ لمسيرة الناس في أغنياته .. وسطر عذاباتنا وقلقنا وتأرجح العلاقة بين المواطن والسلطة في أشعاره بسيطة التعبير.
حكايته هي حكاية صبي منعه أبوه من الرسم ليهتم بدراسته ، ترك الرسم ولجأ للشعر .. ثم حَنَّ للرسم من جديد .. فخيبه أمل الآباء في الأبناء هي العنوان الأمثل الذي يصلح كبدايه لحدوتة حياته رغم أنه أثبت العكس تماماً .. هذا هو "محمد صلاح الدين بهاء أحمد حلمي" الشهير ب "صلاح جاهين"، وصل إلي الحياة في 25 / 12 / 1930م حيث ولد في حي شبرا بشارع جميل باشا، وكان هو الإبن الأول لوالديه، أبوه هو المستشار بهجت حلمي الذي كان وكيل النيابة في سنة الميلاد، وتدرج في السلك القضائي إلي أن أصبح رئيس لمحكمة استئناف المنصورة، وجده الصحفي الكبير أحمد حلمي (شارع أحمد حلمى بشبرا يحمل اسمه) له بصمات عديدة في السياسة فقد كان رفيقاً للزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد، وأسس جريدة القطر المصري، وكان أول صحفي في مصر يذم في الذات الملكية في زمن الخديوي عباس حلمي، أما أمه السيدة أمينة حسن فكانت مدرسه وكانت تروى له القصص العالمية والأمثال الشعبية بأسلوب سلس لطالما عشقه، فعملت على غرس كل ما تعلمته من دراستها فى مدرسة السنية، ثم عملها كمدرسة للغة الانجليزية فى طفلها النبيه الذى تعلم القراءة فى سن الثالثة.
بداية الرحلة
رحلة وصول صلاح جاهين للحياة رحلة صعبة .. تعرضت حياة والدته خلالها للخطر، ليولد بعدها بهدوء دون صراخ، وكان لونه شديد الزرقة حتي ظن الحاضرون أنه قد ولد ميتاً .. لتقطع صرخته الأولي جميع الظنون وليثبت بها للجميع وجودة في الحياة .. وربما كان لولادته المتعثرة تأثيرها الكبير في حياته فكما يقول الخبراء أن الولادة المتعثرة تترك أثارها على الطفل طوال حياته فتسبب له عدم استقرار في حالته المزاجية أو الحدة في التعبير عن المشاعر، وهكذا كان صلاح جاهين الذي كان فرحة كالأطفال وحزنه مصاحب بالإكتئاب، فولد وكأن لسان حاله يقول:
خرج ابن آدم من العدم قلت : ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت : ياه
تراب بيحيا ... وحي بيصير تراب
الأصل هو الموت و الا الحياه ؟
وعجبي
تمتع صلاح جاهين منذ صغره بموهبة "الحكى" فكان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه ثم يعيد روايته لشقيقاته بأسلوب شيق ومميز يحرص فيه على إيقاع الكلمات. فى سن الرابعة - أو ما دونها - نظم بعض الجمل مرحباً بضيف أباه دكتور على العنانى فقال: "كانى مانى ... دكان الزلبانى ... دكتور على العنانى"، فبهرت هذه الكلمات البسيطة الطفولية دكتور على العنانى حتى أنه سجل إعجابه وتنبؤه له بمستقبل باهر على ظهر صورة أهداها للطفل الفصيح.
ولكن أول قصيدة حقيقية كتبها كانت وهو فى السادسة عشرة من عمره يرثى فيها الشهداء الذين سقطوا فى مظاهرات الطلبة بالمنصورة عام 1946 قال فيها:
كفكفت دمعى ولم يبق سوى الجَلََد
ليت المراثى تعيد المجد للبلد
صبراً ... فإنا أسود عند غضبتنا
من ذا يطيق بقاءً فى فم الأسد.
ورغم هذا الظهور المبكر لموهبة الشعر، إلا أن موهبة الرسم قد تأخرت فى الظهور حتى سن الرابعة عشر تقريباً، فلم تزد درجاته فى الرسم طوال طفولته عن 4 على 10.
جاهين رحالة
نظراً لطبيعة عمل والده كقاض وانتقاله مع والده والعائلة الى أكثر من إقليم أو محافظة فقد كان جاهين لا يشعر بالإستقرار، ففي مدرسة أسيوط الابتدائية تلقى تعليمه ؛ والتوجيهية من محافظة الغربية "طنطا"، وشهادة الثقافة من محافظة المنصورة، لتأتي مرحلة التمرد الكبري من جاهين، فوالده أراده أن يدرس الحقوق ويسير مسيرتة ليصبح قاضياً. بينما كان حلم الإبن أن ينهي دراسته في الفنون الجميلة ويسافر إلي باريس .. ليصبح جاهين بين نارين .. نار إرضاء والده .. ونار حلمه الذي يرغب في تحقيقة .. فالتحق بكلية الحقوق بناء على رغبة والده، فوقتها لم يكن الخروج على رغبة الأب يحظى بشعبية كبيرة مثل الآن، لكن أفكاره التمردية رفعت شعار "لن أعيش في جلباب أبي" وقادته لأن يدرس في كلية الفنون الجميلة في الوقت ذاته دون أن يعلم أباه، وهو ما أسفر عن مشادة عنيفة بينه وبين والده غادر صلاح جاهين المنزل على إثرها دون إطلاع أحداً على مقصده.
فتوجه لبيت الفنانين بوكالة الغورى ثم سافر لعمه بغزة، وقضى فترة هناك عاد بعدها إلى القاهرة حيث قرأ إعلاناً عن وظيفة مصمم مجلات بالمملكة العربية السعودية، فتقدم لها ثم سافر دون أن يخبر أحداً، ولم يعلم والديه إلا بعد سفره بالفعل. ولكنه عاد مرة أخرى لمصر بعد أن تلقى خطاباً من والده يحثه فيه على العودة. ورغم التحاق صلاح جاهين بكلية الفنون الجميلة بعد ذلك إلا انه لم يكمل الدراسة بها أيضاً.
وفى منتصف الخمسينيات بدأت شهرته كرسام كاريكاتير فى مجلة روز اليوسف، ثم فى مجلة صباح الخير التى شارك فى تأسيسها عام 1957، واشتهرت شخصياته الكاريكاتورية مثل قيس وليلى، قهوة النشاط، الفهامة، درشوغيرها من الشخصيات.
الزوج والأب
مع أسرته
"الحب سواء كنت متزوجاً أو لا ؟!، فى حالة عدم الزواج، هناك الحب الحر الذى تستطيع فيه أن تحب كل يوم واحدة. أما الزواج فهو أن تستقر وتختار واحدة تبنى معها الحب يومياً، فعندما تنقطع هذه الصلة وتفقدها تشعر أن هذه فترات ضاعت عليك!"
كان هذا هو رأي صلاح جاهين في الحب والزواج، فقد تزوج صلاح جاهين مرتين الأولى من سوسن زكي الرسامة بمؤسسة الهلال عام 1955 التي أنجب منها بهاء وأمينة، والثانية عام 1967من الفنانة "منى جان قطان" - الفلسطينية الأصل - ابنة الصحفية والأديبة جاكلين خورى واشتركت في تمثيل الأفلام التي انتجها وأنجب منها ابنته سامية.
كان صلاح جاهين يهتم كثيراً بأبنائه فكان دائماً بجوارهم عندما يكون لأى منهم مشكلة، فكان أولاده أصدقاؤه وكان هو صديقاً لهم. فحرص على اللهو واللعب معهم، فكان يلعب بالعرائس مع ابنته سامية - أصغر أبنائه - مقلداً أصوات جميع العرائس، وعندما أعربت ابنته الكبرى أمينة عن رغبتها فى الارتباط بأمين حداد، وقد كان وقتها صلاح جاهين فى لندن يجرى عملية القلب المفتوح، ابتسم ابتسامة سعادة وقال لها: "يا مغفلة فى حد يتجوز حد أحلى منه ... دا ينفع نجم سينمائى".
كذلك لم يبخل على أى من اولاده بالمشورة سواء فى حياتهم الخاصة أو العملية، فتنبه لموهبة بهاء المبكرة فى الشعر وسعد بها سعادة غامرة، ولكنه لم ينس دور الموجه فطالب ابنه بضرورة المحافظة على الأوزان عندما عرض عليه بهاء أول مجموعة أشعار كتبها - وقد كان فى المرحلة الإعدادية، ولما كان الطفل بهاء لا يدرك معنى الأوزان، تولى والده شرحها له بطريقة بسيطة وسهلة، واستمرت نصائح الأب لابنه حتى وفاته.
بداية التحول الشعري
بدأ صلاح جاهين يكتب الشعر الكلاسيكي في أواخر الأربعينات، قبل أن يبلغ العشرين من عمره. لكنه قرأ يوماً قصيده بالعامية المصرية لشاعر لم يكن قد سمع به آنذاك، فتوقف عن كتابة الفصحي وقرر التعرف إليه وكان له ذلك، ولم يكن ذلك الشاعر سوى فؤاد حداد رائد شعر العامية وشاعرها الأول في مصر وصاحب أول ديوان في شعر العامية أصدره عام وهو ديوان "أحرار وراء القضبان" الذي أثر فيه تأثيرا كبيراً، وجمعته به صداقة عميقة استمرت فيما بعد حين تزوجت أمينة ابنة صلاح جاهين من ابن فؤاد حداد الشاعر أمين فؤاد حداد.
عندما قامت ثورة يوليو آمن صلاح جاهين بمبادئها وأصبح معبراً عن أحلامها وفلسفتها وذلك من خلال مجموعة من الأغنيات الوطنية الجميلة، التي انطلقت إلي كل الآفاق من خلال صوت عبدالحليم حافظ وألحان كمال الطويل ومحمد الموجي، وفى عام 1956 كتب "والله زمان يا سلاحى" معبراً عن صرخة كل مصرى فى وجه العدوان الثلاثى (إنجلترا- فرنسا- إسرائيل) على مصر وتغنت بها أم كلثوم من ألحان كمال الطويل.
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد نكسة 67
إلا أن دوام الحال من المحال .. تأتي النكسة فتحطم أحلام الملايين .. فيدخل جاهين في حالة من الإكتئاب وتوقف عن كتابة الأغاني الوطنية، وكان قد كتب أغنية لحنها كمال الطويل لتغنيها أم كلثوم عشية هزيمة الخامس من يونيو 1967، وهي أغنية "راجعين بقوة السلاح":
راجعين بقوة السلاح **** راجعين نحرر الحمى
راجعين كما رجع الصباح **** من بعد ليلة مظلمة
وجاءت النكسة في اليوم التالي لتنسف آماله وأغنيته التي صاغها بالأمس بحرف من أمل وأخر من أحلام، فكانت النكسة هي الموت الروحي والنفسي لصلاح جاهين بعد وفاته بعدها ب 16 سنة كاملة.
واتجه كتابات جاهين بعد النكسة في اتجاهين؛ الشعر التأملي العميق كما في الرباعيات ( الأشهر بالعامية ) التي كتبها قبل النكسة وكتب خمس منها بعد النكسة، والأغاني الخفيفة، و التي ربما كان أشهرها تلك الأغاني التي غنتها الممثلة سعاد حسني في فيلم "خللي بالك من زوزو"، مثل الأغنية التي حملت عنوان الفيلم، و"يا واد يا تقيل" و غيرها.
الدرس انتهى
كان لحرب الاستنزاف أثر كبير في نفس القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية مما أفقدها توازنها وأصبحت تتصرف كثور هائج فأغارت الطائرات الحربية الاسرائيلية فى صباح يوم 8 أبريل عام 1970 على مدرسة بحر البقر الابتدائية فدمرت المكان وقتلت العشرات من التلاميذ الأبرياء الذين كانوا يرسمون فى كراساتهم عالماً خالياً من الحرب والحقد والعدوان،
وكغيره تأثر صلاح جاهين بتلك المذبحة، فكتب قصيدته "لموا الكراريس" يصف فيها الوحشية التي قتل بها التلاميذ ويخاطب ضمير العالم العربي والغربي بأن ينتبه لما يحدث قال فيها:
الدرس انتهى لموا الكراريس
بالدم اللى على ورقهم سال
فى قصر الأمم المتحدة
مسابقة لرسوم الأطفال
ايه رأيك فى البقع الحمرا
يا ضمير العالم يا عزيزى
دى لطفلة مصرية وسمرا
كانت من أشطر تلاميذى
دمها راسم زهرة
راسم راية ثورة
راسم وجه مؤامرة
راسم خلق جباره
راسم نار
راسم عار
ع الصهيونية والاستعمار
والدنيا اللى عليهم صابرة
وساكته على فعل الأباليس
الدرس انتهى
لموا الكراريس ..
جاهين وليلته الكبيرة
كان جاهين غزيراً في الإنتاج .. لم يتوقف لحظة واحدة طوال حياته عن الإبداع .. كان يحس أن الحياة قصيرة جداً وسريعة .. فدخل في سباق معها فأنجز المئات من القصائد التي تراوحت بين الزجل والشعر العامي والشعر الشعبي وتحولت إلى أغنيات غناها عشرات المطربين، وكتب أيضاً عدداً من الأوبريتات الغنائية ربما كان أشهرها أوبريت الليلة الكبيرة الذي ما زال يحتفظ بألقه حتى اليوم.
من أوبريت الليلة الكبيرة
وقد وجد صلاح جاهين نفسه فى البناء الدرامى الشعرى وذلك من خلال العديد من الأوبريتات أو الصور الغنائية وأهمها "الليلة الكبيرة" و"المكن" ولقد كتب ل "الليلة الكبيرة" الشيوع والانتشار والنجاح المبهر بعد أن تغنى بها الشعب وأحبها وأصبحت بعض جملها الشعرية معادلاً موضوعياً لوجدان هذا الشعب وعلى سبيل المثال:
"اللى شاف حمص ولا كلش
حب واتلوع ولا طلش"
أو
"يا عريس يا صغير
علقة تفوت ولا حد يموت
لابس ومغيّر
وح تشرب مرقة كتكوت"
ويرجع النجاح لهذا الأوبريت الذي تناول صورة شعبية جداً تتمثل في المولد إلي قدرة جاهين في تصوير المشاهد بالكلمات واختيار الشخصيات المصرية وإبداعه فى التعبير عن حوارها من خلال ألفاظ وجمل نابعة من سمات هذه الشخصيات وأبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية لذا التصقت بروح هذا الشعب فردّدها وتغنى بها وأيضا بحيث لا يقدر المتابع لها أن يختزل منها جملة أو عبارة بل يظل مشدودا لها حتى نهايتها.
مع فؤاد حداد
يعتبر فؤاد حداد هو الأب الروحي لصلاح جاهين، فقد كان سبباً في تحولة الشعري من الكلاسيكية إلي العامية عندما قرأ قصائدة، وكثيراً ما اعترف بفضل فؤاد حداد عليه شعرياً فقد أشاد بتجربته الشعرية الرائدة وقوة مضمونها التى وقف أمامها وأفاد منها كثيراً، فقد وضع فؤاد حداد الشعر فى مكانة جديدة وغاص شعره فى التراث الشعبي، وقام بتطوير الشعر العامي على نحو غير مسبوق، وقد احتل هذا الشعر بفضله مكانة جديدة مع أن الذين سبقوه فى هذا المجال كانوا عباقرة أيضاً مثل بيرم، ويتغنى شعره دوما بمصر وأهاليها العاديين وأعلامها ورموزها الوطنية والثقافية، وتناول شعره كل ذلك بغزارة وتدفق ناشراً روح الانتماء للوطن، قال عنه صلاح جاهين إنه "شاعر فحل مثل شعراء الملاحم، يستطيع أن يقول ويقول دون أن يتوقف".
الرباعيات
لم يكن صلاح جاهين أول من كتب الرباعيات، فالتاريخ القريب يعرفنا بشعراء أفراد كتبوا الرباعيات لعل من أهمهم رباعيات بيرم التونسي المنتشرة في معظم دواوينه، ورباعيات الخيام التي أعاد كتابتها الزجال البارع أحمد سليمان حجاب، ورباعيات شعراء شعبيين وزجالين لم يقدر لأشعارهم ولا لأسمائهم الذيوع؛ ثم رباعيات العظيم صلاح جاهين، لذلك القارئ لأشعار جاهين سيجد هيمنة لشكل الرباعية في كثير من أشعاره وأزجاله وأغانيه، غير ديوان مستقل تحت عنوان ربايعات.
جاءت رباعيات جاهين مختلفة عن غيرها من الرباعيات، فقد اعتمدت في بنائها علي شكل الرباعية "العرجاء" متشاكلة مع شكل الموال الخماسي الأعرج ، وتسير مورفولوجياً مثل رباعيتة:
كروان جريح مضروب شعاع م القمر
سقط من السموات فؤاده انكسر
جريت عليه قطه عشان تبلعه
أتاريه خيال شعرا ومالهوش أثر
ولم تقتصر رباعيات جاهين علي هذا الشكل فنجد عنده رباعيات متبادلة القافية، ورباعيات متوالية القافية، وثالثة عرجاء، كما يستخدم جماليات الموال الرباعي في تجنيسه الكامل مثل رباعيتة:
ياميت ندامه علي البحر ما ادَّاله
مفتوح عليه الحنك والكف مادَّاله
عدي الشطوط والخطوط اللنش عدَّي له
غفر السواحل يا صاحبي مستعدَّاله
حقق صلاح جاهين في رباعياته ببساطته وتلقائيته التعبير عن كل ما يشغل البسطاء بأسلوب يسهل فهمه واستيعابه، وهو ما جعله فارساً يحلق برسومه وكلماته ويطوف بها بين مختلف طبقات الشعب المصري، بل كانت جواز سفره لمختلف البلدان العربية التي رددت كلماته حَفْزاً للعمل والإنجاز، كل ما نبع من صلاح جاهين وما أحاط به كان يؤهله للثراء الفني والإنساني .. بل كان يرشحه أيضاً لمعاناة تصنعها نيران الموهبة، وحظي بحب جماهيري جارف فلم تشهد مصر إلا فيما ندر هذه الموهبة المتسعة الأرجاء شعراً ورسماً وغناءً وتأليفاً وتمثيلاً.
رباعيات جاهين تحمل بين حروفها حالات نفسية عديدة، توغل فيها دكتور يحيي الرخاوي عالم النفس الشهير، حيث قام في كتابه "رباعيات ورباعيات" بتسليط الأضواء على أعمال جاهين بعمق فريد ممزوج ببصيرة أدبية نفسية قلما وجدت، حاستعرض الأطوار النفسية التي مر بها جاهين من خلال أشعار وسندع شعر جاهين وأنوار الرخاوي المسلطة تتكلم وتصف حيث يقول تحت عنوان شخصية جاهين "الفرحانقباضية" - بين طور الاكتئاب وطور الفرح -
طور الاكتئاب
في رباعيات جاهين تكاد تظهر كل أعراض الاكتئاب بلا استثناء من أول عدم الاكتراث والملل، إلى الشعور بالضياع وفقدان المعنى، إلى الإحساس بتغير الكون وتغير الذات، ثم الميل إلى الانتحار أو العجز عن الانتحار. كل ذلك يتتابع في صور -برغم مرارتها- جميلة .. جميلة، حتى تجعلنا نحب ما لا يحب، أو على الأقل نقترب من صدق معاناة من يعايشها في تعاطف متألم قد يخفف عنه، وقد يشجعنا على خوض ما نخشى.
يا حزين يا قمقم جوه بحر الضياع
حزين أنا زيك وإيه مستطاع
الحزين ما بقالهوش جلال يا جدع
الحزن زي البرد زي الصداع!
يحتج جاهين على اختزال الحزن الجليل ليصبح عرضاً عابراً مثل البرد أو الصداع. ويعلن ما يفرضه هذا الحزن الجاثم من شلل عاجز "وإيه مستطاع؟"
مرغم عليك يا صبح مغصوب ياليل
لا دخلتها برجلي ولا كان لي ميل
شايلني شيل دخلت أنا في الحياة
وبكره حاخرج منها شايلني شيل
هنا ننتقل إلى مزيد من عينات أعراض الاكتئاب المتنوعة، فنرى السلبية والتسليم. لكنه إذ يعلن الاستسلام بهذه الصورة القصوى، يكاد يمهد للإيحاء برفضه.
الدنيا أوضة كبيرة للانتظار
فيها ابن آدم زيه زي الحمار
الهم واحد والملل مشترك
ومفيش حمار بيحاول الانتحار
يزيد الاكتئاب وتصبح الحياة بلا مبرر ولا معنى، ويرى أن الهم والملل مشترك بين الحيوان والإنسان، وهو لا يجد مبرراً حتى للانتحار، وهذا أعمق درجات الاكتئاب.
يا طير يا طاير في السما طظ فيك
ما تفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود وللطين تعود
تمص فيه يا حلو، ويمص فيك
يظهر أحد أشكال الاكتئاب في شكل الإفراط في السخرية اللاذعة فيسخر صلاح من الطير، ويذكره بالموت الذي ينتظره، وكأنه من فرط اكتئابه يرفض أن يرى كائناً حياً مخدوعاً بالحياة.
كيف الخلاص؟
شاف الطبيب جرحي وصف لي الأمل
وعطاني منه مقام يا دوب ما اندمل
مجروح جديد يا طبيب وجرحي لهيب
ودواك فرغ مني وإيه العمل؟
ويرد الطبيب
قالي لقته مختنق بالدموع
ومالوش دوا غير لمسة من إيد حبيب
يرى صلاح أن وصفة الأمل المسكنة لا تفيد إلا لتسكين مؤقت، لكن لمسة حب حان قد تكون هي الدواء الناجع. فالطبيب لم يكتف بالتلويح بالأمل بل أشار إلى فاعلية الحب الحقيقي "لمسة من إيد حبيب". وهو شرط بالغ الدقة والصعوبة. لأن الحبيب يرى وليس فقط يلاحظ، يقدم التعاطف العميق لا مجرد الشفقة، ويقدم صدق المعايشة وعمقها لا مجرد ظاهر المشاركة.
معارك جاهينية
كان صلاح جاهين دائم التمرد والصخب، وكان يمتلك ريشة لازعة وكماً من الكلمات والتعبيرات الصادمة، فكان له في حياته وبعد مماته معارك كثيرة لعل أشهرها المعركة الغزالية والمعركة البهجورية، حيث اختلف مع الشيخ الغزالى بالكاريكاتور عند مناقشة مشروع الميثاق فى عام 1962، فاستباح طلاب الأزهر دمه وتظاهروا وتجمهروا أمام جريدة الأهرام، وكان جاهين قد رسم الشيخ الغزالي وهو يخطب في عدد غفير من الجماهير وكتب "جاهين" على لسان الشيخ الغزالي: "يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج.. كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية!"..
وتوالت الكاريكاتيرات الساخنة اللاذعة، إلى أن جاء يوم جمعة نشر فيه "جاهين" ستة رسوم كاريكاتيرية دفعة واحدة جميعها سخرية من الشيخ الغزالي ثم ذيلهم بقصيدة زجلية قصيرة أكثر سخرية، يومها ألقى الشيخ الغزالي خطبة قوية في الجامع الأزهر وشن هجوماً قوياً ضد "صلاح جاهين"؛ الأمر الذي دفع الكثير من الحاضرين إلى أن يحملوا الشيخ بعد الصلاة على الأعناق وذهبوا إلى مبنى الأهرام ورشقوه بالحجارة احتجاجاً على رسومات "جاهين".
تم عقد لقاء مصالحة في مبنى الأهرم بين الشيخ الغزالي و"صلاح جاهين" برعاية "هيكل" وتم التصالح بين الطرفين وطويت صفحة خلاف عنيفة تشابك فيها الدين والكاريكاتير.
كما أجرى معه المدعى العام الاشتراكى تحقيقاً بسبب كاريكاتيراً انتقد فيه تقريراً حول نتيجة التحقيق فى شأن تلوث مياه القاهرة.
كان "صلاح جاهين" و"جورج بهجوري" من أوائل الرسامين الذين ساهموا في نشر فن الكاريكاتير في روزاليوسف وظلت تجمعهما طوال السنوات التي سبقت وفاة "جاهين" علاقة صداقة قوية ولذا صُدم الكثيرون عندما كتب "البهجوري" في كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا "الرسوم الممنوعة" واتهم "جاهين" بأنه لص ظريف وأنه سرق رسوما أوروبية، بعدها دخل الشاعر "بهاء جاهين" طرفا في المعركة التي تمس والده وكتب في الأهرام مستاءً مما قاله "البهجوري" ثم أجرت مجلة الأهرام العربي حوارا مع "البهجوري" وسألته عن الأسباب التي دعته إلى أن يلقي بمثل هذه الاتهامات على صديق عمره "جاهين" وكان رد "البهجوري" صادماً أكثر وأكثر، ولم يغلق ملف المعركة بعد.
لحظات النهاية
في يوم الحادي والعشرين من شهر أبريل توفي صلاح جاهين الذي رسخ حلم البناء والنهضة والثورة في كيان الشعب المصري فهتفنا معه صورة‏..‏ كلنا عايزين صورة‏,‏ وانهمرت دموعنا في انتهي الدرس ونحن نري في كلماته دماء أطفال مدرسة بحر البقر التي ضربتها اسرائيل‏,‏ ورقصنا علي كلماته مع سعاد حسني في الدنيا ربيع والجو بديع‏..‏ وهكذا اختلطت كلماته بكيان هذا الشعب الذي أحس بأحلامه وآلامه،‏
كان سبب الوفاة كما قال ابنه الشاعر بهاء جاهين هو تضارب استخدام العقاقير لأنه كان يعاني من عدة أمراض في القلب والضغط والسكر وغيرها والحقيقة أن كل طبيب كان يعطيه عقار للقلب دون مراعاة مدي صلاحية هذا العقار لمرض السكر أو العكس‏,‏ أدي ذلك إلي نتائج سلبية سببت وفاته في‏21‏ من أبريل عام‏1986‏ عن عمر يناهز الخامسة والخمسين‏.‏
ليحقق رباعيتة:
أنا كنت شئ وصبحت شئ ثم شيء
شوف ربنا .. قادرعلي كل شئ
هز الشجر شواشيه ووشوشني قال
لابد ما يموت شئ عشان يحيا شيء
عجبي !!‏
كان هذا صلاح جاهين عندما تستمع الي أغانيه وتحسن الاصغاء إليها وتنفعل وتتحد معها فتنحني إلي الأرض وأنت تعرق وتغرق عندما ينشد المنشد: "الأرض قالت آه، الفاس بتجرحني، رديت وأنا محني، آه منك أنت آه"، وتطير في الأعالي منتشياً عندما يقول: "يا حمام البر سقف"، وتتحمس وتشجع وتستبسل وتخوض غمار المعارك وأنت تواكب الفتح الذي استحدثه في الأغاني الوطنية منذ أن صدح بهذه الأغنية إلي أن نظم نشيدنا الوطني "والله زمان يا سلاحي"، فلجاهين تعبيرات يبتسم لها القلب ويتوقف عندها العقل وقد يحتار قليلاً وأحياناً يتألم ويتوجع القلب أو العقل أو الإثنان معاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.