«صلاح جاهين.. لا أعرف كيف أستعيد ذلك الفصل الضائع من عمر جميل جرنا إلى اليقين ولا أعرف كيف أجد الكلام الجدير باستعادة كلام تحول فينا إلى مصر ولا أعرف كيف أمشى فى وطن تحول إلى شجن وكيف أتحمل شجنا تحول إلى وطن، وصلاح جاهين هو الذى قال لنا بطريقة لم يقلها غيره: إن ما فينا من مصر يكفى لنفرح». بهذه الكلمات البسيطة فى ألفاظها الغنية فى معانيها تحدث الشاعر محمود درويش عن الشاعر والرسام صلاح جاهين وجاءت هذه الكلمات جزءاً من مقال كتبه درويش من سنوات عديدة وسلمه للشاعر محمد بغدادى ليكون هذا المقال الرائع بمثابة مقدمة لكتاب شيق كتبه بغدادى عن عم صلاح جاهين والكتاب يحمل عنوان «صلاح جاهين.. أمير شعراء العامية». * قبل أن تبدأ يقول الشاعر محمد بغدادى: إن الشعوب المغلوبة على أمرها من مئات السنين قد هبت ثائرة مندفعة نحو الحلم.. ولن يوقفها أحد.. فهذه الجملة تمثل شباب يناير وأحلامهم وطموحاتهم نحو حرية وعدالة اجتماعية وكرامة وكذلك مثلت هذه الجملة أيضا أحلام «جاهين»، وعندما جسد الشباب أحلامهم فى ثورة، جسد جاهين أحلامه فى أشعار وأغنيات ومسرحيات ورسوم كاريكاتيرية أبهرت الجميع ويقول بغدادى: «كان صلاح جاهين يجسد كل هذه الأحلام فيما يقدمه لنا من أشعار وأغنيات ومسرحيات ورسوم تضج بالثورة والتمرد على كل ما هو قائم.. وتعدنا بالأجمل والأفضل الآتى بلا ريب أو ظنون» يستطرد بغدادى فى حديثه عن بداية معرفته بجاهين فيقول: عرفته قبل أن التقى به من خلال رباعياته التى نشرت على صفحات مجلة صباح الخير ويكمل قائلا: أدمنت هذه الرباعيات التى كنت أتلقفها صباح كل خميس - موعد صدور مجلة صباح الخير حينها - فأحفظها بعد قراءتها وأتابع رسومه الكاريكاتورية الجريئة فى أفكارها البسيطة فى خطوطها والتى تنم عن قدرة على الإبداع والتفرد فى الشعر والرسم معا. ويضيف الشاعر محمد بغدادى قائلا: لم يكن فى حسبانى يوما أن ألتقى بصلاح جاهين، أو أدخل بيته أو أتعرف عليه، ولكن الفرصة جاءت ووجدت نفسى أجالسه بصحبة اثنين من رؤساء تحرير «مجلة صباح الخير» السابقين هما «الأستاذان لويس جريس ورءوف توفيق» وكان سبب الجلسة هو الاستعداد وقتها لإصدار ملحق خاص بمناسبة عيد ميلاد صلاح جاهين الخمسين، وكان ذلك فى ديسمبر 0891 وامتد الحوار لأكثر من أربع ساعات متواصلة، كانت بداية الصداقة التى امتدت من يومها حتى يوم رحيله. ويقول بغدادى فى كتابه: ذات يوم طلب منى جاهين أن أمر عليه فى المنزل لنقوم بعمل تصوير مبدئى لكتاب يضم رسومه الكاريكاتورية وذهبت إليه فإذا به يضع أمامى حقيبتين بداخلهما كم هائل من الرسوم الكاريكاتورية الأصلية.. وقال لى إن هذه الرسوم هى كل أعماله التى نشرت فى الفترة من عام 2791 حتى 5891 فى جريدة الأهرام وهى أصول رسوم الكاريكاتير السياسى الذى كان ينشر فى الصفحة التاسعة والصفحة الأخيرة للأهرام مع باب «بدون عنوان» الذى كان يحرره كمال الملاخ. ويكمل بغدادى : فوجئت بعم صلاح يمنحنى شرف حمل هذه الرسوم ويأتمننى على هذا الكنز العظيم لكى أقوم بالإخراج الفنى لإصدار كتاب عن الكاريكاتير الخاص بعم صلاح، إذ قال لى «خذ هذه الرسوم وابدأ فى عمل تصميم للصفحات والأبواب واختر القطع المناسب لحجم الكتاب». ويضيف بغدادى: «وفى نهاية جلستى معه قال لى عم صلاح: هذه الرسوم مقسمة لستة أجزاء وأنا مسافر لندن فى رحلة علاج وقد اتفقت مع الأستاذ محمد فايق وزير الإعلام الأسبق وصاحب دار المستقبل العربى للنشر أن تتولى الدار نشر كل أعمالى على ثلاثة أجزاء». وسافر عم صلاح إلى لندن واتصل بى من هناك عدة مرات للاطمئنان على سير العمل فى الكتاب ويقول بغدادى: بعد عودته زرته عدة مرات ولكنه اتصل بى الاتصال الأخير قبل أن يدخل غرفة الإنعاش بأحد المستشفيات. * عالم صلاح جاهين الشعرى يوضح لنا الكتاب كيف بدأ صلاح جاهين فى تجديد وتحديث الكلمة المنظومة بالعامية وقد مر التحديث عنده بمراحل متعددة بدأت بالدافاع الأول للكتابة ثم البحث عن الجديد ثم الخروج عن المألوف وعن تلك المرحلة يقول لنا جاهين: «عندما قرأت لفؤاد حداد هذه الكلمات فى سجن مبنى من حجر فى سجن مبنى من قلوب السجانين قضبان بتمنع عنك النور والشجر زى العبيد مترصصين. قررت أن أكون شاعراً عامياً، وكان ذلك فى سنة 1591». ويؤكد لنا جاهين بنفسه دور فؤاد حداد فى تكوين وجدانه الشعرى، إذ يقول جاهين قضيت مع فؤاد حداد زمناً لا أذكر طوله بالتحديد لكنه كان كافياً لأن تتكون فىّ نواة ما يسمى بشعر العامية المصرية. وفى مقدمة ديوان صلاح جاهين الأخير «أنغام سبتمبرية» يعقد جاهين مقارنة بينه وبين حداد فيقول: أشهد أنى لم أكتب قط شطرة منه طمعًا فى شىء.. إلا أن هذا العمل يظهر سر رائعة فؤاد حداد «استشهاد عبدالناصر» فما أخوفنى من المقارنة، لأنه أشعر منى وأرحب وأكثر تدفقاً، ولكنى «أى جاهين» أشطر منه لأننى أقص قماش الشعر بمقص خياط على المقاس. ويذكر جاهين سبب اختياره للعامية فيقول «أما اختيارى للغة العامية.. فهو نابع من انبهارى بشعر العامية.. وإمكانيات اللغة العامية الرهيبة فى شعر فؤاد حداد». كما يؤكد جاهين أنه أول من كتب بالعمود الحرفى العامية، ويقول، كتبت «الشاى باللبن»، و«دموع وراء البرقع». ومن هنا استحق جاهين لقب «أمير شعراء العامية» وهو اللقب الذى منحه، الدكتور لويس عوض لجاهين بعد وفاته، عندما كتب عوض مقالاً فى جريدة الأهرام يودع فيه جاهين وكان عنوان المقال «أمير شعراء العامية». * «أشعار بالعامية المصرية» جاءت قصائد جاهين الأولى لتؤكد أن اختياره للكتابة بالعمود الحر كان أمراً محسوماً ومحسوباً، فكان أول من كتب الشعر الحر، ومن أولى التجارب التى كتبها جاهين قصيدة «زى الفلاحين» التى يقول فيها: القمح مش زى الدهب القمح زى الفلاحين عيدان نحيلة جدرها بياكل فى طين زى اسماعين وحسين أبوعويضة اللى قاسى وانضرب علشان طلب حفنة سنابل ريها كان العرق ثم كتب جاهين بعد ذلك «الشاى باللبن» بالعمود الحر أيضاً ويقول فيها: أربع شفايف يشربوا الشاى باللبن ويبوسوا بعض ويحضنوا نور النهار يحضنوا الشمس حبلت النسوان البنات طلعت على صدورهم بزاز الزباين كلهم فى القهوة شكلى يبقى بنت عيونها بحر من العسل الشعور السود خصل.. م البريق شعرك خشن زى الحرام الصوف يابت الشمس تلج أصفر شعاعها صاروخ هوا مجرد اسم متشخبط على ورقة ثم كتب جاهين قصيدة «أنا لوحدى مفيش حاجة» عندما تحدث عن الاحتلال، وحريق القاهرة، وتأثير ذلك على العمالة المصرية، وطرد العمال من وظائفهم بعد أن أصابت السوق المصرية خسارة فادحة، فيدهشنا جاهين ببراعته فى الحديث فى موضوعات جديدة، وأيضاً بحسه الوطنى والاجتماعى وانحيازه الدائم للبسطاء. * الخروج عن المألوف ويقول الشاعر محمد بغدادى عن محاولات جاهين للخروج عن المألوف، وكسر القوالب التقليدية، إنه كتب الكثير من النماذج وابتكر الكثير من طرق النظم وأساليب الكتابة، فاستطاع أن يعبر عن مشاعر جيل بأكمله من الشعراء.. حتى إن الشاعر «فاروق شوشة» عندما سأل جاهين فى حوار تليفزيونى قائلاً: «النقاد يعترفون أن الشكل الجديد للقصيدة العامية صنعته أنت مع فؤاد حداد.. فكيف حدث ذلك»؟. ويرد جاهين: «فؤاد حداد بالنسبة لى كان لديه زخم وفحولة شعرية لدرجة أنه كان يستطيع أن يتدفق كالشلال إلى ما لا نهاية.. وكان يشبه الشعراء الملحميين، أى شبه «هوميروس» أما أنا فقد كان نفسى قصيراً.. لذلك كنت ألجأ إلى حيل الصنعة.. وأختار أوزاناً غير مطروقة». وعن الرباعيات التى كتبها جاهين يقول بغدادى: «اندفع جاهين فى يوم من أيام عام 9591 إلى مكتب «أحمد بهاء الدين» رئيس تحرير صباح الخير فى ذلك الوقت وقال له: اسمع يابهاء أنا عملت حاجة كده وأنا ماشى فى الشارع شكلها زى الرباعيات بأقول فيها: مع إن كل الخلق من أصل طين وكلهم بينزلوا مغمضين بعد الدقايق والشهور والسنين تلاقى ناس أشرار وناس طيبين وأنصت بهاء باهتمام عادى، وقال له تقدر كل أسبوع تنزل واحدة زى دى تحت عنوان رباعيات، وداوم عليها جاهين لعدة سنوات ثم انقطع عن الكتابة وأصدر ديواناً كاملاً بعنوان «الرباعيات» ضمه كل ما كتبه فى الفترة من 9591 حتى 2691 ثم توقفت التجربة، ولكنه عاد ليكتبها مرة أخرى بعد أن تولى رئاسة تحرير صباح الخير عام 6691، وعندما طبعت الرباعيات عام 2691 قال عنها الشاعر «صلاح عبدالصبور» بعد أن سمع الرباعية التى تقول: «نظرت فى الملكوت كثير وانشغلت وبكل كلمة ليه وعشان إيه سألت اسأل سؤال الرد يرجع سؤال وأخرج وحيرتى أشدمما دخلت» وعندما سمع أيضاً: «وأنا فى الظلام من غير شعاع يهمنكه أقف مكانى بخوف ولا أتركه ولما ييجى النور وأشوف الدروب احتار زيادة.. أيهم أسلكه» فقال عبدالصبور «هذه ليست عامية.. كل ما فى الأمر أنها مكتوبة ببعض الألفاظ العامية ولكن معظمها ألفاظ فصحى مسكنة». ثم كتب جاهين «على اسم مصر» الذى قال عنها فؤاد حداد «لو لم يكتب جاهين أى شىء فيكفيه أنه كتب على اسم مصر» ويقول الشاعر محمد بغدادى عندما سألته «لماذا» على اسم مصر بالتحديد؟ قال إن فؤاد حداد قال له «أى البغدادى» هذه القصيدة من أروع ما كتب جاهين فى شعر العامية، وفيها شغل كتير. ويقول بغدادى عندما نقلت لجاهين رأى فؤاد حداد قال لى عنده حق. وفيها يقول جاهين: «على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء بحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب وبحبها وهى مرمية جريحة حرب بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء وأكرهها والعن أبوها بعشق زى الداء وأسيبها واطفش فى درب وتبقى هى فى درب وتلتفت تلاقينى جنبها فى الكرب والنبض ينفض عروقى بألف نغمة وضرب» كما كتب جاهين أغانى الحب والثورة فكتب «ولد وبنت»، «ياواد ياتقيل» التى كتبها لسعاد حسنى، وكتب لها أيضاً «الحياة لونها بمبى والدنيا ربيع والجو بديع اقفل لى على كل المواضيع» كما غنى لجاهين العديد من المطربين منهم «أم كلثوم» فايدة كامل، أحلام، عبدالحليم، نجاة، وشادية، وغيرهم كثيرون. * رسام كاريكاتير مقاتل يقول الشاعر محمد بغدادى عندما اقتحم صلاح جاهين عالم الكاريكاتير بأفكاره الجريئة الطازجة، لم يكن على ساحة الكاريكاتير فى ذلك الوقت سوى خمسة رجال مخضرمين يجيدون صناعة فن الكاريكاتير هم صاروخان ورخا وزهدى وعبد السميع وطوغان ويضيف أن جاهين استطاع فى ذلك الوقت الظهور فى ساحة الكاريكاتير المصرى، بل وتولى نظارة «مدرسة الثوريين» واستطاع أن يبتكر العديد من السلاسل الكاريكاتورية والتى واظب على نشرها لفترات طويلة ومنها «قيس وليلى، نادى العراة، العيادة النفسية، قهوة النشاط، وجع دماغ دولى، ضحكات مكتبية، دواوين الحكومة، الفهامة، و«صباح الخير» أيها.. وفى هذه السلاسل الشهيرة استطاع جاهين أن يقود حرباً ضارية ضد التواكل والتخلف والبيروقراطية وبذلك استطاع جاهين أن يحدث انقلاباً غير به ملامح الكاريكاتير المصرى، وسرعان ما ظهر على الساحة اتجاه مدرسة جاهين الثورية، وانضم إلى هذا التيار عدد من خريجى وطلبة كلية الفنون الجميلة والهواة والمحترفين، وظهرت رسومهم على صفحات روزاليوسف وصباح الخير وعدد كبير من الصحف المصرية، وكان من أهم الأسماء التى ظهرت آنذاك «رجائى ونيس، حجازى، بهجت، إيهاب شاكر، مصطفى حسين، حسن حاكم، ناجى كامل» وجاء الرعيل الثانى بعد فترة قليلة فظهر «صلاح الليثى، اللباد، رؤوف عباد، عليش، جمعة، فرحات، رمسيس، محسن جابر، ومحمد حاكم» وآخرون وكان جاهين يعانى من عدم قدرته على ملاحقة الأحداث اليومية نظراً لانتمائه لمؤسسة روزاليوسف الأسبوعية، ولذلك فرح كثيراً عندما انتقل إلى الأهرام، التى لم يكن بها رسام للكاريكاتير. وخاض جاهين العديد من المعارك منها «معركته مع المدعى الاشتراكى مصطفى أبوزيد، ومعركته الشهيرة مع الشيخ الغزالى». ويقول محمد بغدادى «كان جاهين واحداً من الشهود والنبلاء على هذا العصر الجميل ولكنه رحل وترك تراثاً عظيماً حين نطالعه نضحك من قلوبنا أو نبتسم بمرارة، أو نبكى أو نصرخ ونترحم على روحه الطاهرة». فى النهاية لا أجد إلا القول بأن كتاب «صلاح جاهين.. أمير شعراء العامية» أحد الروائع الإبداعية، التى كتبها الشاعر محمد البغدادى ابن صباح الخير عن فنان وشاعر ورسام ومقاتل عاش حياته كما ينبغى أن تكون من وجهة نظره، فقدم تراثاً ثريا، تشعر عندما تقرأه أنه كتب الآن ولهذه اللحظات ولذا فأشعار ورسوم جاهين لن تموت أبداً، ولكنها ستأتى شاهدة على كل العصور.