من الطبيعي جدا أن نثني علي الهيئة المصرية العامة للكتاب في هذه المرحلة العصيبة علي الإدراك والقراءة، ففي ظل مناخ متوتر وغير مستقر، نجد أن هيئة الكتاب- منفردة- تعمل وكأنها في مناخ طبيعي ومستقر، فتقوم بواجبها البديهي، وتطبع وتنشر عناوين مرموقة لكتب مهمة، ولأسماء محترمة، في حين أن مؤسسات أخري تقاعست أو ارتبكت، وتعطلت آليات النشر لديها في ظل هذه الظروف الحرجة. وإذا كان هذا الثناء يخص عددا من اصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، فالثناء الأخص يأتي بصدد نشر الأعمال الكاملة للشاعر والفنان والسيناريست والكاريكاتوريست صلاح جاهين، وكانت هذه أمنية تراود الجميع، أن يكون صلاح جاهين أمامك دفعة واحدة بشعره ونثره ومسرحياته وأغانيه وأناشيده، أي روحه كاملة تتوزع علي سبعة مجلدات متراوحة الأحجام، في إخراج أنيق، وطباعة ذات جودة عالية، وغلاف للفنان حلمي التوني، وهذه الطفرة الطباعية- أيضا- يضاف إلي رصيد الانجازات في هذه المرحلة، ولاداعي للمقارنة. وأخشي أن يستغرقني الثناء والمديح والشكر، رغم أن هذا ليس من طبيعة هذا القلم، وكثيرا ما وجهنا انتقادات لهيئة الكتاب، لتكاسلها عن القيام بدورها العادي جدا، ونحن نري أن هذا واجبها، ولكن في ظل هذه الظروف فهذا يعتبر من الانجازات التي لانستطيع أن تتجاوزها، ونمر عليها مرور الكرام. ولأن الأمر يخص شاعرا وفنانا بحجم صلاح جاهين، فالأمر أيضا له خصوصية شديدة، هذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كما يقولون، ومازالت الأجيال القديمة والجديدة ترقص وتغني وتطرب لتفصيلات جاهين العبقرية، صلاح جاهين الذي نتنفسه ونعيشه ونقتات بشكل شبه يومي علي ما أنتجته عبقريته، ورغم كل ذلك فصلاح جاهين اختصرته الأجيال المتعاقبة في الرباعيات، والتي تحظي بتقدير خاص وكبير من قراء جاهين، رغم أنه كتب للمسرح وللسينما وكتب الأوبريت، ورسم الكاريكاتير، وهذا هو جوهر الخطوة الجديدة، صلاح جاهين في سبعة مجلدات دفعة واحدة، حتي يتعرف قاريء صلاح جاهين عليه كاملا، بتقديمات مختلف لنجله الشاعر بهاء جاهين، وإن كنا نريد اضاءات أكثر علي هذه الإنجازات، وربما يكون بهاء أراد أن يترك هذه المهمة للمنقبين والباحثين، لكن هذه المهمة سوف تستدعي الأصل المكتوبة فيه المادة الفنية، والظرف الذي حتم هذه الكتابة، ففي المجلد السابع -مثلا- يكتب بهاء: (في عام 1966 عاد صلاح جاهين الي »صباح الخير« رئيسا لتحريرها فصار يحرر بابا اسبوعيا بعنوان: »في الفاضية والمليانة«، وقد مكث صلاح جاهين في رئاسة التحرير عاما ثم ضاق بالعمل الإداري فعاد للأهرام مخلفا حوالي خمسين مقالة تحت عنوان: »في الفاضية والمليانة« ننشرها هنا مع القليل من كتابات أخري له في »صباح الخير« سواء حين كان رساما للكاريكاتير (1959-1962) أو رئيسا للتحرير (1966-1967) وان كانت الأبواب الثابتة تعود لمرحلة (1966).. أظن ان هذه المقدمة القصيرة، والمكثفة، تعتبر مقدمة توثيقية الي حد كبير، ولكنني أزعم أن (في الفاضية والمليانة) ليست كاملة هنا، وأن لصلاح جاهين كتابات أخري نثرية لم يضمها هذا المجلد، واذ كان المجلد ضم كتابات ذات أهمية خاصة للشاعر، مثل شهادته التي ألقاها في مؤتمر الشعراء بيوغوسلافيا، والتي قدم فيها عرضا سريعا لتطور الأدب واللغة العربية، وأظن ان هذه الشهادة النقدية، تقدم وجها آخر صارما لصلاح جاهين، ونوه الي المشكلة الأزلية، والتي تتعلق بحل مشكلة الفصحي والعامية، ويذكر في هذه الشهادة أنه أجري مناقشات مع الكتاب العرب في مؤتمر عقد ببلودان، وصدرت توصيات باجراء دراسات تمهد لحل هذه الفروق المصطنعة، ويضيف بحسرة: (ولكن لايزال بعض النقاد في بلادنا يرفضون هذه التوصيات، ويرفضون الإعتراف بأن الشعر الحقيقي هو الشعر الذي يكتب بلغة الحياة اليومية، بل انهم يرفضون الاعتراف بالتجديدات التي أدخلها شعراء العربية الفصحي علي قوالب الشعر، ويرفضون بالتالي الاعتراف بشعر شاعر كبير كزميلي صلاح عبدالصبور، الذي يعتبر أحسن ممثل للمدرسة الحديثة في الشعر العربي)، وهذا الرأي الذي جاء في الشهادة بناء علي معرفة دقيقة، ودراسة عميقة، وثقافة متقدمة لصلاح جاهين، ونلاحظ هذه الثقافة عندما يقدم نفسه في ثلاثة بورتريهات فنية، ويقسم نفسه الي صلاح جاهين الرسام، وصلاح جاهين الشاعر، وصلاح جاهين الممثل السينمائي، ويستطرد قد عاش الثلاثة مدة طويلة معا، ولم يحدث ان انفصلوا لأي سبب كان، ولولا المشاجرات التي كانت تحدث بين الحين والآخر بين الرسام والشاعر حول الورق والأفلام، وهذه المهمة أو تلك، لاستطعنا ان نقول بأن حياتهم تشبه ما يسمي في هذه الأيام بالتعايش السلمي).. وهذه الشهادات ايضا تلقي بظل كبير علي تجربة التعدد عند صلاح جاهين، أول ديوان صممه صلاح چاهين ولأننا نتعقب صلاح جاهين، ونحاول أن نتلمس خطاه الأولي في عالم الفن والشعر والكتابة، فمن الطبيعي ألا نغفل أحد الدواوين الشعرية لكاتب ومفكر وشاعر، لا أظن أنه معروف بشكل كاف، وتقريباً فهو مجهول تماماً، رغم أنه أحد مؤسسي الحركة الشيوعية في مصر منذ أواخر الثلاثينيات، وأوائل الأربعينيات، وهو مصطفي هيكل، أحد مؤسسي تنظيم »القلعة«، والذي يعود لكتابات مؤرخي هذه الحقبة سيقرأ الكثير عن هذا الرجل، وقد ذكرته الفنانة برلنتي عبدالحميد في مذكراتها: (أنا والمشير)، ذكرته كأحد معلميها الأوائل، عندما كانت تقوم بدور هامشي في التنظيمات اليسارية. ومصطفي هيكل له أكثر من عشرة كتب، منها مثلاً: (مؤامرات في ميدان السياسة المصرية أو (مطالبنا الشعبية أو ما يريده الشعب)، و(قضيتا الوطنية بين الحكومة والشعب)، و(خلاصة رأس المال لكارل ماركس).. وله كتاب: (عشق الجنس التناسلي وأثره في الأدب العربي)، وهذا الاخير صدر عام 1949 ويعد أحد الكتب الجريئة التي تناولت هذا الموضوع بجدية ومنهجية علمية رصينة، وتناول بعض الأعمال الأدبية منها كتابات نجيب محفوظ، وهذا في وقت مبكر جداً.. أما الديوان الذي نحن بصدده فعنوانه: (مع الجماهير)، وقد صدر في مايو 1952، أي قبل ثورة يوليو مباشرة، وكان الغلاف والرسوم الداخلية كلها بريشة الفنان صلاح جاهين، والطريف في الأمر أن الشاعر مصطفي هيكل ينشر قصيدة لصلاح جاهين في الديوان، فيكتب: (الغضب.. استمعت إلي هذه القطيعة للفنان صلاح جاهين فضمتها إلي نماذجي كقطعة من الشعر الواقعي الواضح الأهداف).. وتقول القصيدة أو الفلسفة كما أسماها: إنه الغضب إنه الغضب إنه اللهب يطلب الحطب، ذلك الرضيع سوف لايجرع، أمه الجموع، أقبلت تثب، أمة الحياة، قد حمت حماه، ترعب الطغاة، والذي اغتصب أنها تقول اقرعوا الطبول، وطاردوا الفلول، وهي تنسحب، إنها تصيح أيها الجريح، ضمد الجروح ثم قم وثب، أدرك الطعام في يد اللئام، فهو بالحسام سوف يجتلب، انه الغضب إنه الغضب، انه اللهب يحرق الحطب. ونحن نثبت القطعة كاملة هنا، وهي من القصائد الأولي للشاعر صلاح جاهين، وكان يكتب بالفصحي في هذه المرحلة، قبل أن ينصحه فؤاد حداد بالكتابة بالعامية، وكان تأثير بديع خيري واضحا في كتاباته وأشعاره فيما بعد، ولاننسي أن جاهين صنف ديوانه الأول تحت عنوان: (قصائد شعبية).. أما الديوان الذي نحن بصدده، فأظنه أنه من الكتابات الشعرية الأولي المكتوبة نثراً، وينطوي علي شجاعة ومغامرة، وسط ضجيج تفصيلي كبير، وإن كان هيكل يري القضية في ارتباطها بالعمل العام والدرس النقدي الواسع، فيقول في مقدمته الطويلة: (يخطيء من يظن أن الأدب تجريب فردي مطلق لايخضع لقانون، اذ هو علي العكس من ذلك تماما، لأنه ظاهرة اجتماعية تنعكس علي الأديب في ظروفه وملابساته فيخرج أدبه ضمن الاطار الاجتماعي العام، وإن كان مطبوعا بسماته الشخصية - فالأدب لايمكن دراسته كظاهرة فردية في تطور تاريخي، وإنما كظاهرة اجتماعية منعكسة عن نظام اجتماعي معين بالتحديد). والديوان هو عبارة عن مقطوعات، تصل إلي ست وعشرين مقطوعة، ولها بناء محدد، ومحورها مزمار يستدعيه الشاعر طوال الديوان، ليبث فيه تأملاته وفلسفته وبكاءه وبهجته.. إلي بمزماري فقلبي يدق في عنف. وأنفاسي تتلاحق مبهورة كمن قطع عدوا نصف ميل فمن لايحس بما حوله.. ميت لايعيش إلي به لأقول.. وأقول: فبالنفس كثير.. إلي بمزماري). وهكذا دواليك، وتصاحب القصائد اللوحات الأولي التعبيرية للفنان صلاح جاهين، والتي تعتبر الخطوط الأولي لصلاح جاهين الفنية. وكيف يري جاهين نفسه، واذ كانت هذه البورتريهات كتبت في الستينيات من القرن الماضي، ولم تشمل المراحل الأخري، وقبل أن نترك هذا المجلد، كنت أتمني أن يضم المقدمات النقدية التي قدم بها شعراء الجيل التالي، عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب ومحمود العفيفي وفؤاد بدوي وفؤاد قاعود وفريدة إلهامي وغيرهم. وأظن ان هذه المقدمات النقدية، تقدم صلاح جاهين ناقدا ومكتشفا للمواهب الجديدة- آنذاك- وأظنها من الممكن أن تكون مجلدا وحدها، لو اضفنا اليها القصائد الأولي لكل هؤلاء الشعراء، وسوف تكشف عن جانب هام في المرحلة الأولي لهؤلاء الشعراء، خاصة ان جاهين كان مثل صياد اللؤلؤ، الذي يعرف كيف يقدم مادته، وهذا دور آخر أظننا نفتقده الآن، ان شاعرا كبيرا ومتحققا ينشغل بتقديم جيل جديد، بدلا من تصدير ذاته طوال الوقت، وليت هذه التجربة تعلم شعراءنا مبدأ »انكار الذات«، الذي كان يتحلي به صلاح جاهين. هناك إشكالية قائمة ومقيمة بالنسبة لي، وبالنسبة لتراث صلاح جاهين الشعري والغنائي، تتلخص في الطريقة التي عومل بها هذا التراث فيما بعد، وحدث ما يشبه التمزيق، وأظن انها جديرة بالمراجعة، فلو تابعنا الدواوين في اصداراتها الأولي سنلاحظ ان جاهين كان يبذل مجهودا كبيرا في ترتيب وتصنيف وتبويب الديوان، ولو تأملنا مقدمة ديوان (قصاقيص ورق) الصادر عام 1966، سنجد ان جاهين عبر عن هذه القضية بشفافية شديدة، وكان يقوم بتشهيد القاريء علي هذا البناء الذي آتي به، والذي عاني من اجل ايصاله بهذه الطريقة، وبهذا فالمحاولات التي جاءت بها أعمال صلاح جاهين -فيما بعد- والتي تبعتها طبعة الهيئة، أري انها محاولة غير ناجحة، وكانت الأهرام هي التي بدأت هذه الطريقة، وكما قال لي بهاء جاهين، انها كانت بموافقة صلاح جاهين نفسه قبل رحيله، وقد جاءت هذه المحاولة لتوزيع تراث جاهين الي أزجال صحفية، ومنوعات غنائية، وأشعار عامية، وهكذا، اذن أين بنية الديوان الاصلي، واظن ان هذه الطريقة ستمحو الشكل الأصلي للديوان، وتدخله في شكل آخر، وأظن ان هذا لن يدلنا علي جاهين في طزاجته وحضوره الشاب في أشعاره وأغانيه، وان كانت أشعاره كلها ليست مجمعة، فضلا عن ان لجاهين كتابات اخري وقصصا، كنت أتمني أن تشملها المجلدات، فالجدير بالذكر ان جاهين قبل أن ينتمي لمدرسة صباح الخير عام 1956، وقبلها مباشرة مدرسة روزاليوسف، كان يعمل في مجلة »بنت النيل« التي كانت تملكها وترأس تحريرها درية شفيق، وله كتابات ورسومات أرجو ان يعود اليها من سيقوم بتجميع اعمال صلاح جاهين الفنية، وكان الفنان والشاعر محمد بغدادي، قام بجهد مبدئي منذ سنوات، بتجميع بعض هذه الأعمال في مجلد، لكن جاهين له تراث هائل في الرسم الكاريكاتوري لم يشمله مجلد حتي الآن، واظن ان هذا تحد اخر يواجه جامعي تراث جاهين، لأن جاهين عمل قبل الأهرام وصباح الخير في أماكن عديدة، مثل جريدة »الملايين« -مثلا- والتي كان يرأس تحريرها احمد صادق عزام، وكانت الجريدة ناطقة باسم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، والشهيرة ب»حدتو«.. ومن التمنيات أيضا التي لا أعرف شرعيتها، أن المقدمات التي جاءت بها دواوين جاهين في طبعتها الأولي، ان تجمع في كتاب مستقل، لأن المحتفي به هو صلاح جاهين، فكوننا نتعقبه ونتعقب كل شاردة وواردة تخصه، ليس كثيرا علي صلاح جاهين، مثلما تفعل فرنسا مع رامبو، وروسيا مع تشيكوف وبوشكين، واسبانيا مع لوركا.. واظن ان الذين قدموا جاهين كانوا محتفين به احتفاء خاصا، فكمال عبدالحليم قدم ديوانه الأول »كلمة سلام«، ورجاء النقاش قدم »عن القمر والطين« بمقدمة رائعة وشاملة وشوقي عبدالحكيم وفتحي غانم قدما الطبعة الثانية ل »لكلمة سلام »وموال عشان القنال«.. هذا لأن صلاح جاهين العظيم تكتمل معرفتنا به، وهذا لا يقلل بأي شكل من الأشكال من هذا الجهد العظيم الذي جاءت به المجلدات السبعة لأحد شعراء مصر العظام.