زرت دير سانت كاترين- للمرة الأولي- في أواسط الستينيات عانيت الكثير حتي أتيح لي عبور الضفة الغربية للقناة. تصاريح مدنية. وعسكرية. ضيعت من وقتي أياماً حتي وجدتني أخطو فوق أرض سيناء. ذلك هو ما فرضته الأوضاع الأمنية آنذاك ثم تبدل الحال بعد انتصار 1973. مع بعض التحفظات علي اتفاقية السلام. وما فرضته من قيود علي الجانب المصري. فإن التنقل في أرض سيناء صار متاحاً لكل المصريين ثم تبدلت الأحوال بتأثير الهجمات الإرهابية الشرسة التي شهدتها سيناء في الأعوام الأخيرة تكون فيها الكثير من الجماعات الإرهابية. ساعد علي قيامها ما عاشته سيناء من عزلة غريبة عن الوطن الأم. أثق أن الخطوات التي بدأتها القوات المسلحة هذه الأيام ستضع حداً لكل ما يعانيه إقليم سيناء من غربة عن بقية الأقاليم المصرية ثمة تدابير فرضتها ضرورة التحرك نحو استعادة سيناء طبيعتها المصرية المستقرة والآمنة لكن الهدف الأغلي هو استعادة سيناء كإقليم مصري. لقد طال تعاملنا مع قضية سيناء بأسلوب الصحوة التي يعقبها سكون يظل قائماً حتي يطرأ علي شبه الجزيرة حدث تفزعنا تأثيراته. وتعلو الأصوات التي كانت خافتة أو صامتة بضرورة أن نفعل شيئاً إيجابياً لهذا الجزء الغالي من أرض الوطن. استمرت سيناء- عقب حرب 1948- منطقة شبه عسكرية ظروف التأزم التي فرضها الوجود الاحتلالي الصهيوني في فلسطين قيدت الحياة في شبه الجزيرة وفيما عدا أبناء المدن والقري والمضارب التي تتبع سيناء. فقد ظل الإقليم بعيداً- إلي حد كبير- عن الحياة المدنية. كما في بقية أنحاء البلاد ظلت شبه الجزيرة- حتي خروج قوات الإنجليز من منطقة القناة- تعاني سطوة سلطات الاحتلال لم تكن مجرد زيارة أرض الفيروز متاحة للمصريين بعد سلخها عن الوطن الأم كان علي من يريد التوجه إلي سيناء أن يملأ استمارات يقدم فيها نفسه. وأسباب الزيارة وقد يطول انتظاره حتي يأتي قرار الموافقة علي زيارته لقطعة من أرض وطنه. أو يأتي القرار بالاعتذار دون أسباب. كان انتصار 1973 بداية مرحلة جديدة. تعود فيها سيناء إلي الوطن الأم. وتسترد صفتها المدنية بإسهامات الملايين من أبناء الشعب. وبالمشروعات الزراعية والصناعية والثقافية التي تغطي شبه الجزيرة. دعت الأقلام- من قبل- إلي استعادة سيناء بصورة حقيقية. وإيجابية. بإصرارنا- في الدرجة الأولي- علي تطهير مدنها وجبالها ووديانها من جماعات الإرهاب. والعمل بالتالي علي مضاعفة جهود التنمية بما يقلل من احتمالات الخطر. سواء علي حدود شبه الجزيرة. أو في داخلها الذي لا تتناسب مساحته الهائلة مع كثافته السكانية القليلة. ونقص بنيته الأساسية وخلوه من وسائد الخدمات ومشروعات التنمية الحقيقية. للأسف فإن اهتمامنا بأرض الفيروز ارتبط بالمناسبات. ومن ثم فقد اتسم بالشعارات والخطط الورقية بل إن الخطوات كانت تبدأ لتتوقف حتي ينشأ حدث جديد فتتذكر ما جري. ونعلن ضرورة مواصلة خطط التنمية في سيناء. بدو.. مصريون إذا كنا نرفض تقسيم الشعب العربي بتسميات: الشعب المصري. والعراقي. والسوري. إلخ.. فنحن نرفض- بالضرورة- تقسيم شعب مصر إلي طوائف وأعراق كلنا مصريون ننتمي إلي هذه الرقعة من الأرض التي تبدأ بأقصي الشمال المطل علي البحر المتوسط. إلي أقصي الجنوب في حلايب وشلاتين. تسمية أبناء سيناء بالبدو متعالية وسخيفة. هم بدو من حيث بيئة البادية التي يعيشون فيها مثلها مثل بيئة الفلاحين وبيئة العمال لكنهم- أولاً وأخيراً- مصريون لهم الحقوق التي يتمتع بها كل المواطنين وعليهم ما علي بقية المواطنين من واجبات. لا أفضلية ولا إهمال الكل سواء في إطار الوطن. وأمام القانون. يلح السادة محللو القنوات الفضائية علي التسمية السخيفة كأنهم يتحدثون عن سكان كوكب آخر. وهو ما يعمق الحساسيات أو يختلقها إن لم تكن موجودة ربما ساعد علي عزلة أبناء سيناء تركيبتهم الخاصة من قبائل ومضارب وعادات وتقاليد لكن هذا هو الحال. مع العديد من الاختلافات. في البيئات المجتمعية الأخري. التعامل بين البيئات المختلفة هو الذي يصنع تماسك الوطن. ووحدة أبنائه وسعيهم المشترك لصياغة حاضره ومستقبله.. المسئولية هنا تعود علي مؤسسات الدولة لكنها تعود- في الوقت نفسه- علي أبناء سيناء الإرث الثقيل الذي فرضته الظروف القاسية التي صنعها الاحتلال البريطاني ثم من بعده الاحتلال الصهيوني. هذا الإرث لابد أن يسعي الجميع للتخلص منه. والنظر إلي كل أقاليم الوطن باعتبارها تكوينات في المشهد المصري. التعمير خطوة أولي لكي تصبح التنمية في سيناء عملية مستمرة. لا تخضع للهوي الشخصي. أو الشعارات الفوقية أو تأخذ شكل الفورة التي لا تلبث أن تتلاشي فإن إنشاء وزارة لسيناء خطوة يجب التعجيل بها بحيث تمثل إضافة إلي دور محافظتي سيناء فضلاً عن المحافظة الثالثة المقترحة الأمن القومي الذي تمثله سيناء. وتدافع عنه. لا يحتمل التصرفات الوقتية. ولا الشعارات بل يجب أن يكون المنطلق هو الرغبة في التعمير. وفي نشر الخضرة والتصنيع وتسكين ملايين البشر. لا أعني بالأمن أن تصبح سيناء منطقة عسكرية بل إنها يجب أن تراعي كل مقومات المجتمع المدني. بداية من الصلات الطبيعية والعميقة بالأقاليم الأخري في المجتمع المصري. وانتهاء بتحولها إلي مجتمعات ذات كثافة سكانية حقيقية. ومؤسسات زراعية وصناعية. لها خدماتها التي تضيف إلي اكتمال الصورة فضلاً عن الدور الذي يجدر بهيئات وزارة الثقافة والمجتمعات الثقافية الأهلية أن تؤديه لتعيمق الهوية. وتأكيدها. وإذا كان الإرهاب هو الخطر الذي تعانيه سيناء هذه الأيام. فلعل الحلول التي تطرح نفسها للقضاء علي مشكلة الإرهاب تحتاج إلي دراسات جادة. وإجراءات علمية وعملية. بحيث لا نضيف إلي خطر الإرهاب مشكلات أخري. جلست إلي ناشطين سياسيين من مثقفي سيناء. ينظرون إلي القضية في عمومها وأنها لا تنفصل عن الأخطار التي تهدد سلامة الوطن. بالإضافة إلي المشكلة الأمنية. وهي مسئولية مشتركة بين القوات المسلحة علي الحدود. وقوات الشرطة في الداخل.. فإن تعمير سيناء خطوة أولي. مهمة ليس بإقامة المنتجعات السياحية والفنادق وإنما بإنشاء مجتمعات متكاملة. تضيف إلي حركة الانشاء والتطوير بامتداد شبه الجزيرة لا معني للمناطق المتناثرة المنفصلة التي يصعب أن تشكل- في مجموعها- مجتمعاً متكاملاً. وحتي تنشأ تلك المجتمعات ذات الكثافة السكانية فإنها لابد أن تتوازي مع التقدم في كافة المجالات الصناعية والزراعية والاقتصادية. لا يقتصر التعليم العالي علي جامعة واحدة. وتتضاعف المراحل الدراسية بما يغطي الاحتياجات التعليمية لمئات الألوف من أبناء سيناء المحرومين من فرص التعليم. وتجري المياه في ترعة الشيخ زايد ليتحقق الهدف من إنشائها. وتتدفق الاستثمارات الوطنية والعربية والأجنبية. وخطوات أخري كثيرة. إن انتقال- أرفض كلمة هجرة- أبناء الوادي إلي سيناء للإسهام في تعميرها. وليس غزوها كما يقول التعبير السخيف. يتطلب إزالة كل ما قد يثير الحساسيات في تقبل المجتمعات القائمة لمجاورة مجتمعات أخري جديدة. أشرت- من قبل- إلي ضرورة مبادرة الدولة في عمليات التعمير إنشاء جامعة خاصة في سيناء سابقة ربما لا تتكرر كثيراً بواسطة رأس المال الخاص. فطبيعة رأس المال أنه ينزعج من كلمة الإرهاب بل إنه يتأثر لأي ارتباكات في المجتمع. حتي لو لم تكن ذات صلة بالإرهاب المبالغ التي رصدتها الحكومة لتعمير سيناء يجب أن تذهب إلي المشروعات التي خصصت لها تلك هي خطوات البداية التي نأمل أن يتلوها تدفق استثمارات القطاع الخاص. فراغ أمني سابق تعمير سيناء وأمن سيناء وجهان لعملة واحدة عقب توقيع معاهدة السلام بين السادات وبيجين. تعددت التصريحات عن الإجراءات التي ستتخذ لوصل الجزء بالكل. وطرح العديد من المشروعات الضخمة التي ما لبثت أن تضاءلت وتحولت إلي منتجعات سياحية وفنادق ومناطق ممنوعة علي المواطنين رغم أن أبسط قواعد الأمن القومي تدعو إلي التعمير الفعلي. بمعني توسيع المساحات المنزرعة. وإنشاء المصانع والمؤسسات والمدن التي يشغلها البشر. فلا تصبح سيناء- كما هو الحال الآن- مجرد مدن صغيرة وقري. تناثرت في مساحة شبه الجزيرة التي تمثل سدس مساحة مصر. لزمت الدولة- طيلة السنوات الماضية- صمتاً غير حكيم. وظلت الكثافة السكانية محدودة نسبياً والجبال والصحراء الخالية هي الغالبة علي جغرافية سيناء. وجدت الجماعات الإرهابية في ذلك الفراغ الأمني فرصة لأن تسلل إلي الإقليم إلي الكهوف والمغارات وما بين الجبال. تشيد المعسكرات وتخزن أحدث أنواع الأسلحة. وتتدرب علي استخدامها. وما كنا نقرأه في تقارير الأمن عن مصادرة أسلحة كانت مهربة من ليبيا إلي غزة. عرفنا أنها وجدت طريقها إلي كهوف ومغارات سيناء حتي الصواريخ المضادة للطائرات. والطائرات الموجهة عن بعد.. كل ما يصلح لبناء جيش متكامل. الإرهاب يلوذ بالأماكن المهجورة. يغريه خلوها من الحياة المستقرة وابتعاد الأمن عن مجالها وقد دفع عشرات الآلاف من الشهداء ثمناً لاحتفاظ سيناء بهويتها المصرية واندماجها في الوطن الأم. بالطبع. فإن ذلك لن يتحقق بالشعارات أو الكلمات الجهيرة. ولا حتي بالإجراءات الأمنية. بل إن استعادة سيناء من خلال إعادة فتح الملفات التي ضمت العديد من المشروعات. فلا تظل مجرد أمنيات جميلة. القضية الأهم هي ضرورة استعادة سيناء. بمعني وصلها بالوطن الأم. نبدأ فور استرداد الأمن والاستقرار في إعادة الإقليم إلي بقية الأقاليم المصرية من خلال توطين الملايين من الأيدي العاملة في الدلتا والصعيد. إلي جانب مواطني سيناء. وتنفيذ ما في الملفات من دراسات تستهدف التنمية. بل وتنفيذ ما كنا بدأنا فيه بالفعل لولا أن الدولة كانت حريصة أن يظل كل شيء علي حاله. دون خطوات فعلية للتنمية. ولأن النظرية الاقتصادية- كما نعلم- تذهب إلي أن رأس المال جبان. بحيث أنه لا يقدم علي مشروع ما إلا إذا اطمأن إلي الأرضية التي يتحرك فوقها. وإذا كنا قد بدأنا بتصفية الإرهاب. فإن الخطوة التالية- في تقديري- يجب أن تأتي بواسطة الدولة. وبتعبير محدد فإن المشروعات المماثلة لجامعة سيناء لن تتكرر إلا إذا فتحت الدولة ملفات سيناء. وسعت لتنفيذ ما تتضمنه من مشروعات تشمل كل شبه الجزيرة سيمثل ذلك عامل جذب للمستثمرين في المجالات المختلفة. فلا يقتصرون علي أمثال حسين سالم الذي اكتفي بالجانب السياحي بإقامة. الفنادق والقري السياحية. تعمير سيناء يعني أمنها وأمن سيناء يعني أمن مصر.