ما أجمل أن يرفع كل منا "دقت ساعة العمل" كشعار له في المرحلة المقبلة.. وما أروع أن يقول لنفسه: دقت ساعة العمل والاجتهاد من أجل مصالح عليا أكبر وأسمي بكثير من تلك المصالح الفردية الفئوية التي انطلقت ومازالت تنطلق من هنا وهناك معلنة حالة العصيان المدني بغالبية الهيئات والمؤسسات الحكومية منها وغير الحكومية.. كل يبكي علي ليلاه.. ولكن: إلي متي؟! ما أحلي أن نتساءل أما آن الأوان للغمة أن تنقشع.. وللصبح أن يطلع.. وللحرية أن يصدع صداها.. وللشمس أن تسطع ويشع ضوءها.. وتنشر حرارتها الدفء في أرجاء البلاد فيذيب طبقة من الغشاوة التي سيطرت علي العقول والقلوب. كل ذلك جميل ورائع نظريا.. ولكن عمليا وعلي أرض الواقع نقولها بكل صراحة وشجاعة إن أحدا في هذا البلد لم يكلف نفسه حتي الآن.. في رأيي.. عناء دراسة الأسباب التي اندلعت من أجلها ثورة الشباب في 25 يناير وكذا البدء في علاجها ووضع حلول عملية واقعية لها ألا وهي أسباب معاناة الشباب. لقد كان خروج الشباب في 25 يناير ثائرا علي الأوضاع المتردية لخيرة أبناء مصر بعد معاناة طويلة مع البطالة وارتفاع الأسعار والتمييز إلي جانب عدم القدرة علي العيش بكرامة حيث لا عمل ولا اهتمام في ظل تضخم وارتفاع في الأسعار يلتهم الأخضر واليابس من دخل الأسر البسيطة فإذا بهم يفتقرون إلي أبسط مقومات الحياة فلا يجدونها.. والشباب يتابع ويشاهد ويراقب كل هذا عن قرب منذ طفولته يحلم وينتظر اليوم الذي يتخرج فيه من الجامعة ظناً منه أنه "سيقب علي وش الدنيا" فإذا به يصطدم بشبح البطالة الذي كان يكبر هو الآخر يوماً بعد يوم أمام أعين هؤلاء الشباب. فمن الشباب من قارب علي سن المعاش دون أن يحصل علي وظيفة مناسبة.. ومنهم من تخرج بتفوق ولم يعين لا بالجامعة ولا غيرها فكيف وهو يحلم بسلك التدريس والمستقبل الجامعي وهذا حقه فيمني نفسه بذلك ويكد ويكدح حتي يحصل علي الماجستير أو الدكتوراه ولا عمل أيضا.. يحدث هذا بينما يري الشباب بعضا من أصحاب الحظوة من زملائهم تنتظرهم الوظيفة حتي ينتهوا من دراستهم وهم لا ينتظرونها.. تأتيهم صاغرة طائعة ولا يجهدون أنفسهم عناء السعي أو البحث عنها ولهم "خيار".. تري ماذا يفعل الشباب البائس؟! الآن ومنذ 25 يناير ونحن نري العجب العجاب.. ولاشك أن المظاهرات والاحتجاجات الفئوية يقل ظهورها في الشوارع شيئا فشيئا وهذا في حد ذاته شيء إيجابي يعبر عن وعي المصريين فلم تعد هناك إلا فئة قليلة نراها معتصمة أو محتجة أو متظاهرة أحيانا في بعض الأماكن.. وهناك شوارع وأماكن بعينها أصبحت مرتعاً خصباً للناشطين والمتظاهرين والمحتجين علي اختلاف مسمياتهم فلا تكاد تخلو يوما من تظاهرة أو عدة تظاهرات.. وأبرز هذه الأماكن شارع "قصر العيني" بجوار وأمام مبني رئاسة مجلس الوزراء وفي محيطه.. وأمام مبني الإذاعة والتليفزيون "ماسبيرو" إلا أن الصورة أصبحت سيئة ولا تعبر عن أي حضارة أو تحضر. أعترف كما اعترف قبلي د.عصام شرف رئيس الوزراء نفسه بوجود تقصير في حق البعض فالغالبية منهم معهم حق في مطالب مشروعة.. ولكن هذا التقصير متوارث ومتعمد أحيانا فمثلا عاش هذا الجيل من الشباب منذ سنوات علي تصريحات حكومة د.أحمد نظيف وقد رفعت بكل جرأة وتحد شعارا مؤداه: "انسوا الوظائف الحكومية.. أي لا تعيين ولا وظائف بالحكومة بعد اليوم". كان الشباب يسمعون ذلك لكنهم كانوا يرون هذا الشعار وهو لا يطبق إلا علي فئة معينة من المصريين وهي فئة ينطبق عليها: "من لا ظهر له يُضرب علي بطنه".. فئة الطبقات الوسطي والمتوسطة والبسطاء وأستحي أن أقول "الدنيا" الذين ذاق أهاليهم الأمرين حتي نجحوا في تخطي عقبة الثانوية العامة ثم الجامعة.. وربما تخرج الابن الشاب بتقدير مرتفع وتفوق ومع ذلك فمكانه الجلوس بالمنزل ليفقد الأمل في كل شيء. أنا شخصيا أعرف من بين هؤلاء الكثيرين ممن حصلوا علي بكالوريوس الهندسة بتقدير جيد جدا ولا يعمل.. ومن حصل علي الدكتوراه ويعمل بوابا أو لا يعمل.. ومن حصل علي الليسانس أو البكالوريوس ويعمل بوابا أو لا يعمل.. فهناك الألوف من الشباب تخرجوا في الجامعات ومنها إلي الشوارع والمقاهي والساحات.. تري فيما سيفكر أمثالهم وإلي أين ينطلقون في بلد لم يوفر لهم شيئا وتركهم يعانون الأمرين فمنهم من يبحث عن سفر للخارج لأي دولة عربية ليعمل فيها كالعبيد فلا يجد ومنهم من ينجح في ذلك إذا كان له أحد الأقارب هناك فيسافر ليترك مرارة أخري يتجرعها الآباء بفراق الأبناء في وقت هم في أشد الحاجة إلي وجودهم بجانبهم.. ولكن قصر ذات اليد كان السبب!! نعم بكل هذا وأكثر.. أعترف بأن الشباب مظلوم مظلوم مظلوم في بلد لم يوفر له سوي الكلام ولم يسمع من مسئوليها طوال سنوات طوال مضت سوي التصريحات الوردية والوعود الكاذبة والآمال الخادعة فلم يكن أمام هذا الشباب إلا أن يثور علي الأوضاع.. يثور علي كل ما هو مستفز لمشاعره وعواطفه وكرامته.. لم يكن أمام هذا الشباب الذي عاني من الصمت سنوات حتي ضاعت ثمرة شبابه وأحلي سنوات عمره متنطعا يأخذ المصروف من والديه اللذين يعانيان شظف العيش وارتفاع الأسعار.. لم يكن أمامه إلا أن يثور في وجه من كانوا سبباً في تردي الأوضاع إلي هذا الحد المهين. ماذا كان يفعل الشباب وهم قد وصلوا إلي سن الزواج بينما هم لا يجدون عملا يعينهم علي متطلبات الحياة.. أما الآن وقد ثار الشباب علي الأوضاع البالية وعلي كل من تسبب أو كان سببا مباشرا أو غير مباشر في تشريدهم وضياعهم وقد آلت الأوضاع إلي تغيير جذري في كل شيء فيجب علي هؤلاء الشباب أن يهدئوا من ثورتهم ويمنحوا الفرصة للمتغيرات أن تؤتي ثمارها وأن تعطي فرصة لاستمرار العمل والإنتاج.. ولا ننسي في غمرة هذه النشوة أن ننبه المسئولين الحاليين أن اتقوا الله في هذا الشعب بشبابه وكل فئاته وابتعدوا عن الوعود الوردية البراقة الكاذبة التي تزرع الآمال الوهمية في نفوس الشباب بينما هم متأكدون أنه لا حصاد من ورائها والمطلوب أن يبحث كل مسئول عن دور وعن وسيلة لمساعدة هذا الجيل من شباب مصر وأملها في يومها وغدها ومستقبلها.. وأعرف مسبقا أن المهمة شاقة وقاسية .. ولكن: بالإيمان بالله والعمل والنوايا الخالصة تتحقق المعجزات بشرط تعاون الجميع وتكاتفهم للانطلاق بهذا البلد الأمين "مصر". وأقول محذراً: إياكم وتكميم أفواه الشباب.. ولكن امنحوهم الحرية وعلموهم كيف يحسنون استخدامها.. وأقصد بالحرية هنا الحرية المسئولة الواعية. وإلي شباب مصر: هناك نماذج أراها هذه الأيام أمام مبني مجلس الوزراء تتظاهر.. تعتصم.. تفعل كل شيء بلا رقيب ولا حسيب.. يسيئون استخدام الحرية بأسلوب لا حضارة فيه ولا لياقة ولا أدب يرفعون الشعارات والهتافات التي تسب وتلعن الغير ولا تعترف بأحد حتي رموز الأزهر الشريف لم يسلموا من لسانهم ولا تعطي الفرصة لأحد.. وهؤلاء لا أعرف هل أحزن عليهم من أجلهم أم أحزن قهرا منهم ومن تصرفاتهم فهم للأسف الشديد يقولون إنهم من أوائل الدفعات بالجامعات "أي من خيرة شباب مصر" ولم يتم تعيينهم وهذا شيء مؤسف يجعلني أحزن عليهم ولأجلهم. ثم أراني أحزن قهرا منهم عندما أري أسلوبهم الذي لا يليق بجاهل يشتمون الجميع ويقطعون الطريق علي كل مار حتي انهم منعوا بعض الضيوف الأجانب الذين كانوا في زيارة عمل داخل مبني رئاسة مجلس الوزراء منعوهم من المرور وأجبروهم علي العودة واختيار طريق آخر فهل هذه هي الحضارة التي تليق بمصر والمصريين.. وأهمس في أذن المسئولين: أن استمعوا إليهم وناقشوا طلباتهم بدلا من تركهم هكذا مع الوعد بالاستجابة للمشروع من مطالبهم وفقا لجداول زمنية محددة بدلا من تركهم هكذا يعانون ويعاني منهم خلق الله.. فإلي هؤلاء وأولئك إلي جميع أبناء مصر من متظاهرين شباب ومسئولين : "اتقوا الله في مصر..!!"