في أوائل هذا العام انتقلت وأسرتي إلي مسكن جديد وراعني تلك السيدة العجوز التي تتحامل علي نفسها وتصعد يومياً خمسة أدوار لتتولي مهمة تنظيفها.. في البداية ظننت أنها مسئولة عن أبناء أو أحفاد صغار تسعي علي احتياجاتهم.. لكن زوجتي أخبرتني أنها لم تلجأ إلي هذا العمل الشاق إلا لكي تضمن موافقة السكان علي أن تبيت آخر الليل في بدروم العمارة!! وذات يوم وجدتها تطرق باب شقتي وكانت زوجتي في زيارة لاحفادها بالقاهرة.. جاءت العجوز تطلب مياهاً لكنني وبحكم طبيعتي الاجتماعية وحبي للناس أخذت أسألها عن أبنائها.. أجابتني: "كانت حياتي معهم جميلة يملؤها الود حتي مات الأب فالتقوا حولي حتي أنتهي من توزيع الارث عليهم ومن بينهم بيع الشقة التي أقيم فيها علي وعد منهم كعادة معظم الأبناء في مثل هذه الحالات بأن يتناوبوا رعايتي وإقامتي لديهم. وتواصل العجوز كلامها وهي تحاول مغالبة دموعها باختصار بعد أن نالوا مرادهم علي داير مليم بدأوا في اعطائي الوجه الآخر.. فزوجة ابني الكبير كانت تنتظر خروجه من البيت لكي تذيقني من العذاب ألوانا بارغامي علي تنظيف المنزل وتهديدي بالطرد في حال ما أبلغت ابني بأي شئ حتي سقطت مريضة ودخلت المستشفي وبعد قليل خرجت علي بيت ابني الثاني فاستقبلتني زوجته شاكية من الغلاء ومطالب الأولاد.. فقلت لها: يكفيكم معاشي فردت: "مفيش مانع".. وذات مساء جاءني حفيدي ليسألني أحقاً أنت مجنونة "ياتيتة" ومصابة بمرض معدي!!.. كلمات زلزلتني ودفعتني إلي حمل حقيبتي والتوجه إلي بيت ابنتي التي ما أن رأتني حتي صاحت في وجهي "ياهلا.. ياهلا أخذوكي لحماً وألقوكي عظماً".. ثم.. ثم اصطحبتني من يدي لأقرب دار للمسنين لكن مديرة الدار حينما علمت أنها ابنتي "وبختها" بشدة ورفضت قبولي بحجة أن "العدد كامل".. هنا واصلت الطريق معي حتي بيت ابنتي الصغري التي وبكل سخرية راحت تقول: "كنت متوقعة مجيئك".. وعند أول ليلة فوجئت بها تفرش مرتبة وبطانية بجانب سرير الأولاد لأبيت عليها!!. هنا لم تتمالك العجوز نفسها وأخذت تبكي في مرارة وهي تتذكر حفيدتها وهي تجذبها من يدها لتصعد بجانبها علي السرير ثم تذهب لتحتضنها وتعتذر لها عن تصرف أهلها ومضت الأيام وذات مساء وعند عودتها من الخارج وجدت البيت مغلقاً فطلبت من الحارس الاتصال بهم فأخبروه بأنهم عند شقيقهم الكبير لكن القلق ساورها وأصرت علي الذهاب إليهم فاستقلت سيارة تاكسي واتجهت إلي هناك لتجد من يخبرها بأن الجميع اتجهوا إلي جزيرة الورد.. حتي الأن لم تكن تعرف العجوز ماذا يحدث حتي قابلتها حفيدتها الحنون لتخبرها بأن كل شئ تمام وأن حموات أبنائها وبناتها كلهن بالداخل للاحتفال بعيد الأم.. وعندما حاولت الحفيدة تكريم جدتها بهدية بسيطة ثارت غضبة زوج ابنتها وبدلاً من أن تتنظر تدخلاً من إبنتها فوجئت بتماديها هي وزوجها في البطش بها.. وبعد أن كانت تبيت بجوار سرير حفيدتها قررا نقلها إلي غرفة الغسيل أعلي سطح العمارة وهو مالم تتحمله إبنتهما الرقيقة لتسقط مريضة.. أيام عصيبة عاشتها العجوز بين بيوت أولادها فلم تجد سبيلاً سوي الخروج بلا رجعة لتأتي إلي منطقتنا وتسكن عمارتنا. وفي الحقيقة لم أنه كلامي معها قبل أن أطلب منها عناوين أبنائها جميعاً لعل وعسي يراجعون مواقفهم المؤسفة في حق أمهم فحصلت علي وعود مغلظة منهم بأنهم سيوفرون لها مسكناً بديلاً لكن لم يتحقق منها شيء لتظل المسكينة قابعة في البدروم بعد أن تنكر لها الجميع باستثناء الحفيدة التي أصابها الاكتئاب بسبب مالحق بجدتها علي يد أبيها وأمها!! إنها ليست قصة من خيال.. بل واقع مرير تعيشه ساكنه البدروم منذ شهور طويلة ماجعلني أشعر أننا صرنا بحق في آخر الزمان ولله الأمر من قبل ومن بعد. الكابتن رضا حجازي المنصورة **المحررة: في الحقيقة لولا تواصلي المباشر مع الحالات التي يحملها إلي نافذتنا "الكابتن رضا" لظننت وليسامحني في ذلك أنها من محض خياله وبنات أفكاره حيث لا يمكن لأحد أن يتصور أن يصل جحود الأبناء تجاه أبويهم إلي هذه الدرجة من العقوق التي معها تحل لغة الأرقام محل البر والعطف بهم. وبقدر الألم الذي يعتصرنا إزاء هذه الحالات.. بقدر ما أنني لا أستطيع اعفاءها كاملاً من المسئولية فقد شاركت العجوز بانصياعها التام لرغبات أولادها في توزيع الارث بما فيها الشقة التي تؤويها في وقوع المأساة في حين لو كانت قد تمسكت بأبسط حقوقها في العيش في بيتها ما تركت لأبنائها وزوجاتهم حرية التحكم فيها والتهرب من وعودهم لها بحس الرعاية والاهتمام مثلما تنكروا لوعدهم للكابتن "رضا" حين أكدوا له أنهم سيوفرون لها المسكن البديل ثم عاد ليجد العجوز قابعة بالبدروم. وبعد لايبقي سوي التذكير بعاقبة العقوق التي يعجل الله بها في الدنيا قبل الآخرة باعتبارها كبيرة من الكبائر فأفيقوا أيها العاقون قبل فوات الأوان.