امل علام ... وصلتنا هذة الرساله وكل امله نشرها ....لعل الله يرحمه ... أنا يا سيدتي كهل في الثمانين من عمري , أعيش في أيامي الأخيرة أقسي الساعات , يجافيني النوم , وتؤلمني نفسي اللوامة أكثر مما تؤلمني أمراضي , ولن يستريح قلبي حتي أعترف بكل أخطائي , على أمل ان تقرأ ابنتي كلماتي فهي مدمنة لهذه الصفحة وتخبرني بأنها سامحتني على كل ما فعلته معها وعلى ظلمي لها طوال سنوات عمرها . ابنتي هذه كانت وش السعد علي , فبعد مجيئها, جاء معها الخير , فتحول حالي من فقر شديد , الى ثراء ورفاهية , إلى سيارات ورصيد في البنك . ولكني لم ألتفت الى رسالة الله الكريمة , لأني وبكل صدق لم أكن أحب البنات , وكنت أتمني ان تكون ولدا... لم أكن سعيد ولم أعرها اهتماما ولم أمنحها حب وعطف وحنان الأب , وكان كل تركيزي هو الدعاء لله العلي القدير ان يرزقني الولد الصحيح المعافي , كانت زوجتي تشاركني في كل شيء , بل الحقيقة انها كانت أكثر قسوة مني , فلم تشعر بأنها أم , وكانت تري أن أمومتها ستتحقق عندما تنجب ولدا . استجاب الله لدعائنا بعد عشر سنوات وأنجبنا الولد , ولن أصف لك مقدار سعادتنا , تحولت حياتنا وكأنه أول مولود , فتفرغنا أنا وأمه لتدليله وتلبية رغباته , وشاركت الابنة محبة مرات ومرغمة أغلب الوقت , فكنا نهينها ونعاقبها اذا لم تلتفت له وتستجب لأحلامه . لا تسلني عن العدل بين الابناء فهذا كان أبعد تصور لدي ولدي زوجتي التي كانت تشجعني سامحها الله على هذه التفرقة , وتري كل العيب والعار في المساواة بينهما . نشأت ابنتي تقبل منا أي شيء , ولا تعترض على اهتمامنا وإنفاقنا ببذخ على شقيقها , وعلى الرغم من رضاها البادي على تصرفاتها , الا اني كنت ألمح في عينيها عتابا وانكسارا , وأتعمد تجاهلهما , دون ان يهتز قلبي أو ضميري. اتحدث عن نفسي ولا أريد أن أتحدث عن أمها كثيرا , لانها الان بين يدي الرحمن فهي غفر الله لها كانت أكثر قسوة وظلما , بل طالما حرضتني هي وابننا على ظلمها . أعترف الآن لابنتي أمامكم بأني كنت أبخل عليها في مصاريف الدراسة , فيما أنفق على ابني بالآلاف , كنت أمنحه في أربعة أشهر فقط أكثر مما انفقته علي ابنتي أثناء تجهيزها للزواج , فقد وافقت على خطبتها مبكرا وهي في الجامعة وقلت لها عليك ان تعتمدي على نفسك مع خطيبك لتأثيث عش الزوجية , وتركتها تبيع شبكتها لتنفق على دراستها , فيما أنفقت على ابني وخطيبته في كلية الطب لمدة ثلاث سنوات ما يقارب مائة الف جنيه . كنت إذا اشتريت لها شيئا , ضاعفت سعره, وكأني أمن عليها , وأشعرها كم هي عبء علي , ولم أبخل على ابني , فمنحته ربع مليون جنيه لتأثيث عيادته , وحتي لا تنظر اليه قلت لها انه استدان ليؤثث عيادته الخاصة . هل لك ان تتخيل ابنتي تذهب الى المستشفي بمفردها لإجراء جراحة , فلا نذهب معها , تترك زوجها مع أبنائها وتذهب هي مع صديقتها ونمر عليها بعد الجراحة كالغرباء , وشاء قدر الله ان يجري ابني نفس الجراحة فلا يغمض لنا جفن, ندخله أفضل مستشفي ونحضر له أكبر الأطباء , ولا نفارقه لحظة واحدة حتي يخرج سالما . سيدي.. لا أصدق ما فعلته وزوجتي بابنتنا , أستعيد الأشياء وأكاد أفقد صوابي , وأذوب خجلا مما فعلنا , كيف أعمي الله بصيرتي وأغلق قلبي الى هذا الحد , ولكن أرجوك تحملني ولا تصب علي غضبك , فالقادم أكثر ظلما وإيلاما . أصيب زوج ابنتي بمرض في قلبه , مما كان يستدعي منها جهدا مضاعفا للاعتناء به , وهو كان كريما رءوفا بها , حريصا على ارضائها , وإرضاء أهلها حتى لو كان هذا على حسابه وحساب أبنائهما . ذات يوم مرضت زوجتي , واحتاجت الى من يرعاها , فالخادمة لاتصلح لهذا الوضع , فطلبت من ابنتي ان تأتي لتعيش في عمارتنا , فتقرر زوجتي وابني ان تقيم في شقة على السطوح بجوار الخادمة لأن هذا مقامها ويسارع ابني بتأجير شقة أخري في الطابق الثاني بنصف قيمتها حتى لا تطمع فيها , وعندما تشكو الابنة من صعوبة صعود السلم على زوجها المريض , نقول لها هذا هو المتاح , فتجري في الشوارع بامكاناتها البسيطة بحثا عن شقة بجوارنا, رحمة بزوجها , ولم يهتز لنا جفن , بل الادهي من ذلك , اجر ابني الشقة التي في السطوح حتى لا تضع فيها بعض أشيائها . أتذكر الآن , ابني وهو يبتزني , ويخبرني بانه أقل من أقرانه , فأبذل كل جهدي لمنحه المزيد من النقود, وأنا في حالة فزع أن يمرض بسبب إحساسه , وألا يكون آمنا بعد موتي , فزع أصابني بالقلب وأنا في الاربعينيات من عمري , ولكن كله يهون من أجل الولد الذي سيخلدني ويحمل اسمي الي الأبد , لذا كنت أبيع ما أملك لأمنح المقابل له , وأخبر ابنتي اني بعته بعشر ما بعته , حتى لاتشعر بأني مقصر معها , وان علقت ابنتي بكلمة تنفجر زوجتي في وجهها مستخدمة اسطوانة مشروخة تعدد فيها ما فعلته من أجلها وهي لاتقدر , فتنهار ابنتي بالبكاء وتنقض على يدي أمها لتقبلهما طالبة الصفح والعفو . مات زوج ابنتي , وتعاملنا كعادتنا معها بكل فتور , كنا اخر المعزين... لا أعرف ولا أفهم , كيف صبرت علينا ابنتنا... المسكينة الرحيمة لم تفق من موت زوجها , حتي ماتت ابنتها , تلك الحفيدة التي تركناها مريضة , وتركنا أمها تستدين من الاخرين لعلاجها , ونحن بقلوبنا المتحجرة كأن شيئا يحدث ليس لنا أي علاقة به , ولكن يوم الحق كان قريبا , وانتقام الله العادل كان قريبا . سقطت مريضا ياسيدي , واستدعت حالتي نقلي الى المستشفي , جاءت ابنتي لتجلس تحت قدمي , تركت كل شيء لخدمتي , أما ابني وزوجته فكانا يمران علي لدقائق , تاركين أطفالهما في السيارة , مما أغضب زوجتي فذهبت للوم زوجة ابني في بيتها , فلاقت ما لا تتوقعه من إهانات وشتائم على مرأي ومسمع ابنها الجالس على السرير لم يبرحه. فعادت زوجتي مقهورة , لتموت كمدا قبل أن تنطق الشهادتين. إنشغلنا في إعداد الجنازة لدفنها في قريتنا , وفجأة ونحن في المقابر , بحثت عن ابني فلم أجده بجواري , فزعت عليه . وقلت لمن حولي : ابحثوا عنه فقد يقتل نفسه حزنا على أمه , فأخبرني أحد الجيران , بأنه شاهده منذ قليل بسيارة نصف نقل , يحملها بأشياء من البيت , اكتشفت بعد ذلك أنه أخذ متعلقات أمه , أخذ كل ما خف وزنه وغلا ثمنه , وعاد إلينا في آخر الليل وفي عينيه دموع , نفس دموع أمه , دموع التماسيح . إلتف الأهل والجيران حول ابنتي الحزينة , وبدلا من تقديم العزاء , كانوا يرجونها أن تسامح أمها , فالكل يعلم ماذا فعلنا بها . بعد أن انفض الجميع من حولي , وعدت وحيدا إلى بيتي , سألني أخي كيف ستعيش؟.. فقلت له: ابنتي أولي بي , فصرخ في وجهي , ابنتك المريضة , ابنتك التي عذبتها وقسوت عليها وحرمتها من محبتك ومالك , وأذلت نفسها للآخرين , لماذا لا يكون ابنك الذي منحته كل ثروتك كل حنانك ومحبتك , هل سيرفض رعايتك؟ فأجبت بالنفي , فقالوا سيكون مصيرك مثل زوجتك.. فقررت أن أخوض الاختبار , وليتني ما فعلت.. يوم واحد يا سيدي , لم أر أسوأ منه في حياتي , فقد عشت الذل بمعناه من زوجته وأحفادي , ولأول مرة أفهم معني الآية الكريمة { ... آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ...} (11) سورة النساء . سيدي.. أنا الآن مريض , وحيد , أحتاج إلى عناية خاصة , ولا أستطيع تحمل مصاريف علاجي , ولا أجد أمامي وحولي الا ابنتي المريضة المظلومة.. ولكن ليس لي أمل في أيامي الأخيرة إلا أن تعفو عني وتسامحني , هي وكل من ظلمتهم , من أجل ابني , سامحه الله وهداه.. أرجوك ناشدها أن تغفر لي , فها أنا أتلقي جزاء ما اقترفت , وعقاب الله لي ماثل أمام عينيها , فلترح قلبي ولتسمعني كلمة واحدة: سامحتك يا أبي , بعدها يمكنني تحمل كل أنواع العذاب ! .