كان واضحاً منذ دعوة المشير عبدالفتاح السيسي الجماهير لتفويضه بإنهاء الأزمة السياسية التي كادت أن تعصف بالأخضر واليابس علي أرض مصر. وأوشكت ان تدفع البلاد إلي حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.. وما ترتب علي ذلك من استجابة شعبية كاسحة. عندما خرج عشرات الملايين في يوليو الماضي مؤيدين ومناصرين.. ان الرجل يتمتع بشعبية كاسحة أتاحت له التخلص من حكم الإخوان الذين انخدع البسطاء فيهم وظنوا ان بمقدورهم إدارة البلاد علي أسس سليمة اقتصادياً واجتماعيا وسياسيا فإذا بهم وقد فشلوا فشلا ذريعا وخيبوا آمال الناس فيهم.. فكانت الثورة التي أطاحت بهم وبرئيسهم.. وجمعت أبناء الشعب حول القائد الذي جسد آمال وتطلعات الجماهير. فمنحته تفويضا جديدا تمثل في الغالبية الهادرة التي أعطته أصواتها في الانتخابات الأخيرة. لكن.. هل هذا الالتفاف الجماهيري وتلك اللحمة الشعبية حول السيسي تتفق ومصالح الامبراطورية الأمريكية والقوي الاستعمارية العالمية والعولمة ونظام حكم الشركات ومصالح الكيانات الاقتصادية العملاقة متعددة الجنسيات والسعار الرأسمالي الذي يجتاح العالم؟ وهل هذا الالتفاف الجماهيري وتلك اللحمة الشعبية حول السيسي تتسق ومصالح ومطامع بعض رجال الأعمال المحليين والأجانب ممن يملكون الأموال والصحف والمحطات الفضائية التي تتحدث باسمهم وتتبني توجهاتهم وتخدم مصالحهم الضيقة حتي ولو كانت تتعارض وتتقاطع مع مصالح وتوجهات الغالبية العظمي من الشعب؟؟ وهل هذا الالتفاف الجماهيري وتلك اللحمة الشعبية الكاسحة تتفق مع مصالح الذين يطمحون إلي التمتع بالامتيازات والاحتكارات التي كانوا يستحوذون عليها وكانت تتيح لهم امتصاص دماء وعرق الغالبية المطحونة التي تعيش حياة هي إلي الموت أقرب؟؟ وهل هذا الالتفاف الجماهيري وتلك اللحمة الشعبية حول السيسي تتفق ومصالح الإخوان واتباعهم. مهما كان حجمهم ومن تحالفوا معهم بحكم التقاء المصالح سواء من فلول الحزب الوطني المنحل أو من لوبيهات المصالح الأجنبية - الظاهرة منها والخفية - والتي تتلقي الدعم والتمويل من الخارج وترتدي ثياب "النشطاء السياسيين" أو ما يسمي بمنظمات المجتمع المدني وغيرها؟؟ لقد اعتمدت الأمبراطورية الأمريكية وما يدور في فلكها من الدول الغربية والتحالفات الرأسمالية خلال العقود القليلة الماضية سياسة التفتيت والتفرقة وتغذية النزعات العرقية والانفصالية للسيطرة علي مقدرات العالم ونهب ثرواته واعتمدت في ذلك علي دعم الأقليات وتجنيد من تري فيه الاستعداد لتنفيذ هذا المخطط ولعلنا جميعا شاهدنا وعاصرنا كيف استطاعت واشنطن تفكيك دول الاتحاد السوفيتي من خلال ما يسمي ب "الثورات الملونة".. وأغرت الجماهير هناك بالوعود المعسولة حول الحرية والديمقراطية والرخاء والازدهار الاقتصادي.. لكن كل هذه الوعود والآمال تبخرت وذهبت أدراج الرياح بمجرد تحقيق الغاية الأمريكية المتمثلة في فصل هذه الدول عن الاتحاد السوفيتي وتفكيكه . سبق كل ذلك نجاح أمريكا في تفتيت العالم العربي.. فبعد أن رأت توحد العرب في حرب أكتوبر المجيدة وتعاونهم غير المسبوق وظهور بوادر تأسيس كيان عربي يمكن أن يكون له وزن وكلمة في رسم وتشكيل السياسة العالمية.. بادرت واشنطن إلي وضع السياسات والاستراتيجيات التي تفرق هذا الجمع والالتفاف حول مصر فإذا بها من خلال دراسة الشخصية العربية عبر نماذج المحاكاة التي تقام في مراكز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية الأمريكية - تقنع السادات بالقيام بمبادرة السلام التي كان لها مردود ايجابي لمصر في استرداد كامل ترابها الوطني.. لكن هذه المبادرة عزلت مصر عن محيطها وبترتها من الجسد العربي بعد أن كانت قلبه النابض.. وعلي الرغم من ان واشنطن سوقت لمصر والمصريين اتفاقية السلام علي انها سوف تجلب لهم الرخاء والتقدم والازدهار.. ها نحن بعد مرور نيف وثلاثين عاما علي هذه الاتفاقية الميمونة نري الحال التي آلت إليها أوضاعنا.. ونرفل في الرخاء الموهوم الذي تحقق من وراء التبعية للأمبراطورية الأمريكية! وعندما توحد العرب في مواجهة إيران إبان حربها مع العراق. الذي خرج منتصراً في هذه الحرب واكتسب الخبرة القتالية وأصبح لديه جيش قوي في المنطقة.. كان لابد من خطة للقضاء علي هذه القوة الاقليمية التي أصبحت تشكل تهديدا محتملا للتفوق العسكري الإسرائيلي الذي تحرص أمريكا علي استمراريته. ومن هنا قامت بإغراء صدام حسين بغزو الكويت وكانت هذه هي المصيدة الأمريكية التي أدت لتدمير العراق وما جري له حتي يومنا هذا.. من بث ألغام الفرقة والنزاع والتشتت والتقسيم واذكاء الصراعات بين السنة والشيعة والأكراد.. ثم جاءت مرحلة ما يسمي ب "الربيع العربي" وهو ليس سوي ترجمة للسياسة الغربية التي تجسدت في التصريحات الشهيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس حول نشر "الفوضي الخلاقة" وإقامة ما يسمي ب "الشرق الأوسط الجديد" وتنفيذ الخطة الأمريكية الرامية لوضع خارطة جديدة للمنطقة. وكما نعلم جميعا.. فقد تمزقت دول الربيع العربي إرباً إرباً.. وها هي سوريا وليبيا واليمن تأكلها الحروب الأهلية ويطاردها شبح التقسيم.. وكان من المخطط لمصر ان تحذو حذو هذه الدول لولا أن من الله عليها بمن ينقذها. في ضوء كل ما سبق.. يتضح أن شعبية السيسي لا تعجب الكثيرين. بل والمؤكد انها تجلب له شبكة من الأعداء داخليا وخارجيا. هل الرجل الذي أفسد المخطط الأمريكي الهادف إلي تقطيع أوصال دول المنطقة سيكون بمنأي عن سهام الهجوم الغربي والأمريكي عليه ومحاولة تشويه صورته للحد من الشعبية غير المسبوقة التي يحظي بها.. ولهذا ليس بغريب أن تظهر بعض الصحف الغربية وقد تحولت بوصلتها 180 درجة. فنجد الجارديان البريطانية عقب فوز السيسي بالانتخابات تنشر افتتاحية لها تحت عنوان "مصر عادت لأحضان مبارك" مع ان الصحيفة نفسها نشرت قبل ذلك بيومين فقط تقريرا بعنوان مصر السيسي تعري حالة الصراع بين المصالح والقيم في الغرب" مؤكدة ان الرجل قد أطاح بحكم الاخوان تحت الضغط الشعبي الهائل والتأييد الجماهيري واسع النطاق. وقالت أيضا ان هذا الرجل "القوي" وضع نهاية لآمالنا التي علقناها علي الربيع العربي وانه سوف يسعي لاعادة مكانة مصر إلي ما كانت عليه أيام الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. وما علينا سوي أن نتعامل مع الواقع. ماذا يعني ذلك.. أليس هو الخوف من الرجل "القوي" الذي يحظي بظهير شعبي جارف يسانده ويقف إلي جانبه ضد كل صور الاستعمار الجديد؟؟ بعد ذلك يأتي كاتب مثل روبرت فيسك وهو من الكتاب الذين يتقنون فن الخداع والمراوغة ويوهمون قراءهم بالحياد بينما يدسون السم في العسل.. ليشكك في العملية الانتخابية ثم يتساءل - وهذا بيت القصيد - من سيكون الأول في طابور المهنئين للسيسي؟ ويجيب بقوله: انه العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. ثم يقول أين المفاجأة في توظيف مليارات السعودية والخليج لحفظ مصر ورئيسها الجديد في حالة طفو علي السطح؟ ألا يفضح هذا الكلام نوايا الدول الغربية التي تريد لمصر ألا تطفو علي السطح أبدا وأن تظل عالقة ما بين الغرق والطفو. تستجدي معوناتهم.. تستعطفهم وتنتظر احسانهم.. وتظل رهن اشارتهم وأسيرة أوامرهم. كما ان ظهور بوادر التضامن العربي والخليجي مع مصر اضافة إلي تصريح السيسي في حوار تليفزيوني بتعبير "مسافة السكة" حول مدي استجابة مصر للدفاع عن أية دولة خليجية تتعرض لعدوان خارجي.. يقض مضاجع الغرب الذين يمثلهم فيسك وأمثاله. فلو قدر لمصر والدول الخليجية الانخراط معا في كيان أو تحالف يجمع بين القوة البشرية والثقل الاستراتيجي والعسكري لمصر وبين القوة الاقتصادية والسيولة المالية والرصيد الهائل من الطاقة البترولية لدول الخليج لكان لهذا الكيان والتحالف شأن آخر يمكنه قلب موازين القوي في المنطقة والعالم رأسا علي عقب. ان الشعب المصري أصبح الآن في مسيس الحاجة إلي الالتفاف أكثر وأكثر حول قيادته.. والتكاتف أكثر وأكثر مع الرجل الذي اختاره بمحض إرادته.. الرجل الذي دفعت به الجماهير إلي صدارة المسئولية.. وتوحدت حوله أطياف المجتمع معلقة آمالها عليه وعلي قيادته لمواجهة ما يحاك لنا بليل في الداخل والخارج.. ** أفكار مضغوطة : كل شيء يبدو مستحيلاً .. إلي أن يتحقق علي أرض الواقع ! " نيلسون مانديلا "