منذ انقلاب أتاتورك على الخلافة الإسلامية في تركيا، بدأت تركيا تُصيغ سياستها بناءً على تحالفاتها الجديدة مع أوروبا وعلى وجه الخصوص انجلترا، حيث بدأ التوجه الاستراتيجي التركي يبحث عن مكانه سياسية- اقتصادية أوروبية. كما استطاعت تركيا أن تمثل حاجزًا دفاعيًا للولايات المتحدةالأمريكية وأوروبا الغربية في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة، وعقدت تحالفات إستراتيجية مع الكيان الصهيوني وكانت أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل، وعقدت معها تحالفات سياسية- عسكرية إستراتيجية. خلال تلك الحقبة، وتلاحق الأحداث بدأ البحث عن استراتيجيات أمريكية جديدة للسيطرة والهيمنة على المنطقة، دون الزج بالولاياتالمتحدة في أتون معركة مباشرة كما حدث في أفغانستان والعراق. مع هذه الحالة كان حزب العدالة والتنمية بقيادة (طيب رجب اردوغان) يعيد صياغة الإستراتيجية التركية نحو منطقة الشرق العربي، وكذلك إعادة النظر بالتوازنات السياسية الإستراتيجية للسياسات التركية العامة، فبدأ بسياسات تطمئن أوروبا سياسيًا بأن حزب التنمية يُقدم نموذج إسلامي يستطيع التعامل مع أوروبا، أي نموذج إسلامي فريد ومغاير للنماذج السابقة، وكذلك لنموذج أستاذه (أربكان)، وهو ما تقبلته أوروبا، ووجدت فيه الولاياتالمتحدة النموذج الأقرب أو البديل المناسب لالتفاف الشعوب حوله. وجد المجتمع التركي في حزب العدالة والتنمية ضالته في محاربة الفساد الإقتصادي والارتقاء باقتصاد تركيا، وهنا كلمة السر في تحقيق التفاف جماهيري شعبي حول الحزب، اعتبر المصدر الأساسي في مواجهته مع المؤسسة العسكرية التركية، التي بدأت مرحلة ترويضها ليس بفعل الالتفاف الجماهيري التركي وحسب، بل وبإرادة خارجية كذلك. الحالة التركية بدأت معالجاتها الأساسية من خلال الأحوال التركية الداخلية في اتجاهين، الأول معالجة اقتصادية وإعادة الحيوية والانتعاش للاقتصاد التركي، الذي انعكس بالرخاء والازدهار على المواطن التركي، وهو عامل الحسم الأهم لدى الشعوب، والثاني تقويض سلطة المؤسسة العسكرية التركية، وسحب مصادر دعمها وقوتها، وتعريتها من حلفائها وعلى وجه التحديد- الولاياتالمتحدةالأمريكية- بما أن دورها انتهى مع نهاية الحرب الباردة، ولم يعد هناك حاجة لقوة ردع عسكري، في ظل انهيار القوة السوفيتية، وتلاشى أي تهديدات عسكرية من روسيا. أما الاتجاه الآخر(الخارجي) الذي اعتمد عليه رئيس الوزراء التركي(اردوغان) وحزب العدالة والتنمية، هو إعادة صياغة علاقاته مع العرب سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، وبدأ التقارب التركي عربيًا وإسلاميًا مع الأنظمة، وكذلك مع الشعوب، ومع قوى الإسلام السياسي في المنطقة، وهذا اتضح جليًا في مواقف تركيا من إسرائيل. هذه السياسة هي تأكيد على إعادة التوازن في السياسة التركية نحو منطقة الشرق العربي، والتي تقوم على منطق" اكسب كل الأطراف" حيث أنها لا زالت تحتفظ بعلاقاتها وتحالفاتها مع إسرائيل، وبذات الوقت تقربت للنظام الرسمي العربي، وللشعوب العربية التي تجد في السياسات الرسمية التركية أهمية أكبر من علاقاتها مع الأنظمة وهو ما اتضح من مواقفها من الثورة المصرية، وأحداث ليبيا، وكذلك أحداث سوريا. أي أنّ تركيا تتناغم مع السياسات الشعبية ومتغيرات المنطقة وفق آليات مخططة جدًا، وهو ما منحها قوة إقليمية موازية للقوة الإيرانية التي تحتفظ أيضًا معها بعلاقات سياسية واقتصادية. الصورة عامة تؤكد أن تركيا تتجه من الغرب الذي فقدت الأمل بقبولها لديه كعضو كامل في الاتحاد الأوروبي، إلى الشرق السوق الحيوي اقتصاديًا، وسياسيًا لها، ما حققت به نجاحات لافته خلال حقبة بسيطة مستفيدة كذلك من مذهبها الذي يتناغم ويتلاقى مع قوى الإسلام السياسي في المنطقة- وعلى وجه الخصوص- (الإخوان المسلمين). إذن يمكن قراءة المتغيرات التركية من عدة زوايا ومنحنيات، سواء فيما يتعلق بالمصالح التركية الشخصية كدولة تبحث عن مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة بعد احتلال العراق، أو من حيث مذهبها الديني الذي يتناغم مع النزعة العقائدية- المذهبية التي بدأت تطفو على سطح الصراعات السياسية، وخاصة في ظل وجود لاعب مذهبي قوي يتمثل بإيران، واندفاعه نحو المنطقة وخاصة(لبنان وفلسطين). أو من حيث مصالحها الدولية المرتبطة مع أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية، وتناغم هذه المصالح- إن لم يكن- انصهارها كما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة سابقًا مع المنظومة الاشتراكية، وهو يؤكد أن النموذج التركي ربما يعتبر البديل الأكثر رواجًا لتطبيقه في المنطقة العربية بعد انتهاء مدة الصلاحية للأنظمة العلمانية والقومية في المنطقة.