يبدو أن القادة الأتراك الحاليين عادوا إلي الخط الذي كان يحكم تركيا طوال العقود الماضية وهو تأكيد الدور الإقليمي والعالمي لها من خلال البوابة الأمريكية. ووثيقة الرؤية المشتركة التي عاد بها عبد الله جول وزير خارجية تركيا من زيارته الأخيرة لواشنطن تقول بوضوح إن حزب العدالة والتنمية صاحب الاتجاه الإسلامي والذي وصل إلي السلطة 2002 قرر العودة بالكامل إلي الحظيرة الأمريكية بعد أن حاول طوال تلك السنوات أن تكون بوابة الاتحاد الأوروبي هي المدخل الطبيعي لدور أكبر إقليميا وعالمياً. والوثيقة الجديدة التي وقعتها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية يعتبرها البعض نوعاً من الشراكة الاستراتيجية حيث تشير الوثيقة بوضوح إلي توسيع نفوذ تركيا ومجالها الجوي والاعتراف بدورها الإقليمي المتنامي سواء بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط أم بالنسبة لجمهوريات القوقاز. وكانت أهم بنود الرؤية التركية الأمريكية المشتركة هي حل المشكلة الفلسطينية علي أساس إقامة الدولتين، ومساعدة العراق الديمقراطي الموحد، وتأييد ومساندة موقف واشنطن والدول الأوروبية بالنسبة للملف النووي الإيراني، ودعم الجهود التركية للاستقرار والسلام في منطقة القوقاز والبحر الأسود، ومساندة تركيا في حربها ضد الإرهاب خاصة حزب العمل الكردي، وتفاهم جول قضية قبرص الموحدة وضرورة انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي. ونظرة علي كل هذه البنود نجد أننا أمام معاهدة أمريكية تركية جديدة واعتماد تركيا كقوة إقليمية كبري، وهي بالنسبة لكثير من المعلقين تعتبر نقلة نوعية جديدة في العلاقات التركية الأمريكية، بالرغم من ان تركيا كانت دائما جزءا من التحالف الغربي الذي تقوده أمريكا ضد الاتحاد السوفيتي أيام الحرب الباردة وانضمامها إلي حلف الاطلنطي، وكل الاحلاف التي كان الغرب يطرحها مثل حلف بغداد في الخمسينيات في مواجهة التيار القومي العربي الذي كان مندفعا تلك الأيام، ثم الحلف المركزي الذي خلف حلف بغداد بعد ثورة العراق سنة 1958. ولكن تركيا خلال السنوات الماضية خاصة عندما تولي حزب الرفاه السلطة في التسعينيات بزعامة آربكان، ثم بعد ذلك حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان الذي كان هو نفسه عضوا قياديا في حزب آربكان التي اسقطها الجيش التركي سنة 1997 تحت دعوي انها تنتهج سياسة متطرفة وتخرج علي أسس الدستور العلماني التركي. والحكومة التركية التي لم يكن قد مضي علي توليها السلطة أكثر من عام واجهت مطبا خفيفا قبل وبعد الغزو الأمريكي للعراق، فقد رفض البرلمان التركي اشتراك قوات تركية في عملية الغزو مقابل إسقاط الديون وذلك تحت تأثير ضغوط جماهيرية في الشارع التركي الذي كان ومازال معاديا للغزو الأمريكي. وتتجلي الشيزوفرانيا السياسية الحالية في تركيا حينما يعلن حزب العدالة والتنمية الحاكم والذي رفع في الانتخابات شعارات إسلامية، ان الحزب ليس حزبا دينيا ولكنه حزب ديمقراطي علماني ويوافق علي مسودة الاتفاق المدني أو البروتوكول الذي كانت قد وضعته لجنة تركية أوروبية مشتركة تمهيدا لانضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي. وقامت الحكومة التركية التي وصلت السلطة بشعارات إسلامية بتغييرات واسعة في الدستور التركي منها المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، ومنها تعديل قوانين الميراث ومنها إلغاء ما كان يسمي بمجلس الأمن التركي الذي كان يعني إشراف الجيش علي سير الأمور والذي أدي إلي ثلاثة انقلابات تدخل فيها الجيش واسقط حكومات منتخبة منذ سنة 1960. وتركيا المعاصرة مثل تركيا التاريخية هي بالفعل بلد العجائب والمتناقضات فالقسطنطينية عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية مركز المسيحية العالمي هي نفسها اسطنبول أو الأسيتانة عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية حتي أوائل القرن العشرين ومازالت هذه الثنائية المتناقضة تاريخياً تحكم تركيا الحديثة. وهناك ثنائية جغرافية تلعب دورا مهما في صياغة الدور الإقليمي التركي فتركيا دولة مفصلية ومؤثرة جسدها في آسيا ورأسها وذراعاها في أوروبا، تحتضن مضايق البوسفور والدردنيل التي تمثل نقاط التماس الحساسة بين القارتين. وهذه الثنائية التاريخية والجغرافية انعكست في كثير من المواقف التركية، فهي الدولة الإسلامية الوحيدة العضو في حلف الاطلنطي، كما انها الدولة الإسلامية الوحيدة التي ترتبط مع إسرائيل بمعاهدات استراتيجية ودفاعية. وحتي بعد ثورة كمال أتاتورك علي امبراطورية آل عثمان المريضة تصور هذا الثائر الدكتاتوري ان التحديث يعني فقط تغيير اللافتات والشعارات، فقام بإصدار قرارات وفرامانات للتغيير من أعلي في محاولة لتحديث تركيا، لذلك جاءت العلمانية التي أعلنتها مفتقدة المضمون والجوهر مثل الخلافة التي ألغاها، فكلاهما ظل مجرد هيكل شكلي للهيمنة والسيطرة، وبعد أكثر من تسعين عاما علي ثورة أتاتورك واسقاط الحكم العثماني، يكتشف الجميع في تركيا وخارج تركيا ان هذا البلد المفصلي المهم مازال يعيش المتناقضات الجغرافية والتاريخية بحثا عن هوية. فتركيا الدولة تريد وتسعي لأن تكون أوروبية مثلما كانت عضوا في حلف الاطلنطي، ولكن أوروبا مازالت تتحفظ وتضع الكثير من الشروط والقيود، وتختار تركيا إسرائيل لتجري معها تحالفات عسكرية واقتصادية في تحد واضح للمشاعر القومية والإسلامية في دول الجوار المحيطة. ومن الطبيعي والأمر كذلك ان يفرز المجتمع التركي المعاصر الافكار والاتجاهات الأصولية المتطرفة من كل لون، فخرجت الأصولية الدينية وحزب الرفاه الذي حاول ان يشد تركيا إلي الماضي، كما خرجت الأصولية القومية المتطرفة التي ترفع شعارات فاشية وتحلم بعودة الامبراطورية التركية القديمة التي كانت تمتد من رومانيا ودول البلقان شمالا وحتي الجزيرة العربية واليمن السعيد جنوبا. وتأتي وثيقة الرؤية المشتركة لتثير الكثير من التساؤلات سواء علي النطاق القومي أم علي النطاق العالمي في هذه الظروف التي تشتعل فيها الحرائق في العراق وفلسطين وأفغانستان وتتأزم الأمور في إيران. فهل يمكن لوثيقة الرؤية المشتركة ان تحول الثنائية التي تعيشها تركيا من تناقض صارخ إلي تكامل غني وثري يفتح لها جميع الأبواب لكي تلعب دورا إيجابيا في استقرار المنطقة بحكم ثقلها الإقليمي. أم انه محكوم علي الشعب التركي ان يواصل ممارسة الانقسام والشيزوفرانيا السياسية التي سيطرت عليه طوال العقود الماضية.