تركيا.. لاعبا رئيسيا في المنطقة أصبحت تركيا لدي الشارع المصري والعربي دولة صديقة تحظي بتقدير وإعجاب الناس العاديين والأحزاب والقوي السياسية الوطنية، واحتل رئيس وزرائها «رجب طيب أردوغان» مكانة عالية في نفوس الجماهير العربية، وشبهه البعض - تجاوزا - بجمال عبدالناصر ومكانته ودوره القيادي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وبلغ هذا التقدير والترحيب بالدور التركي في المنطقة ذروته عقب عملية القرصنة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في المياه الدولية ضد سفن «قافلة الحرية» التي تحركت لكسر الحصار علي غزة، وقتل الإسرائيليين تسعة من النشطاء والمتضامنين الأتراك مع الشعب الفلسطيني في غزة كانوا علي ظهر السفينة «مرمرة». كان رد الفعل التركي علي العدوان الوحشي الإسرائيلي قويا ومؤثرا، بدأ باستدعاء السفير التركي في تل أبيب وإلغاء الحكومة التركية «حكومة حزب العدالة والتنمية» ثلاث مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل كانت مقررة من قبل، وإلغاء صفقة عسكرية خاصة بشراء طائرات استطلاع إسرائيلية بقيمة 180 مليون دولار، وتعليق المحادثات الخاصة بمد خط أنابيب الغاز الطبيعي إلي إسرائيل والمعروف بمشروع «النهر الأزرق» الروسي التركي، ووصف أردوغان عملية القرصنة والقتل الإسرائيلية علي «أسطول الحرية» بالجريمة وبأنها «عمل دنيء وغير مقبول» وأن عليها دفع ثمن ذلك، وأعلن «عبدالله جول» رئيس الجمهورية أن العلاقات التركية - الإسرائيلية «لن تعود أبدا إلي ما كانت عليه». وامتد رد الفعل التركي إلي الولاياتالمتحدة حليف إسرائيل وحليف تركيا، فقال أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي أثناء زيارته لواشنطن وقبل لقائه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، إن تركيا أصيبت بخيبة أمل إزاء رد إدارة أوباما علي الهجوم الإسرائيلي، و«نتوقع تضامنا كاملا معنا، ويجب ألا يكون هناك اختيار بين تركيا وإسرائيل، يجب أن يكون الاختيار بين الخطأ والصواب»، وكانت كلينتون قد أعلنت دعم بلادها إدانة الأممالمتحدة «للأعمال التي أدت إلي مأساة الهجوم الإسرائيلي علي الأسطول الإنساني» وقالت إن واشنطن تطالب إسرائيل بإلحاح بأن تسمح للأشخاص المعنيين بالاتصال بقنصلياتهم وللدول المعنية بأن تستعيد فورا قتلاها وجرحاها، كما أكدت أهمية «إجراء تحقيق سريع وحيادي وذي مصداقية وشفاف» في الهجوم!. ويثير الانتباه في الموقف التركي القوي أن الحكومة التركية «لم تلعب أي دور ملموس في تنظيم قافلة الحرية سواء التخطيط لمسيرتها أو الإشراف عليها، كانت الحملة - مثل سابقاتها - عملا قامت به مؤسسات عمل مدني وخيري في أوروبا وتركيا، وبانطلاق القافلة اقتصر دور الحكومة التركية علي دعوة الحكومة الإسرائيلية للسماح لسفن القافلة بالوصول إلي قطاع غزة، لكن الهجوم الإسرائيلي المسلح علي السفينة التركية مرمرة.. هو الذي ولد رد الفعل التركي.. وبانطلاق حركة الاحتجاج الشعبي واسعة النطاق ضد إسرائيل في عدد من المدن التركية، أدركت حكومة العدالة والتنمية أن عليها أن ترتفع إلي مستوي الحدث، وأن الموقف يمكن أن يتحول من أزمة دبلوماسية كبيرة إلي فرصة سياسية أكبر» كما كتب مركز الجزيرة للدراسات، وتميز التحرك التركي باستهدافه عدة مجالات، فحرض علي مخاطبة الرأي العام المحلي لتوضيح رؤية الحكومة وجهودها، والتحرك علي المستوي الدولي في مجلس الأمن للحصول علي موقف دولي ضد التصرف الإسرائيلي، والتحرك في اتجاه الإدارة الأمريكية، إضافة للضغط المباشر علي إسرائيل ووضع شروط واضحة لإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين تركز علي رفع الحصار عن قطاع غزة، وتعويض الضحايا، وفتح تحقيق دولي شفاف في الحادث. ونخطئ إذا تصورنا أن توتر العلاقات بين تركيا وإسرائيل بدأ مع العدوان علي «أسطول الحرية»، فرغم أن تركيا هي أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل عام 1949 وتشكل مع إيران وإسرائيل «تحالف المحيط» فقد كانت القضية الفلسطينية سببا دائما للتوتر بين الجانبين، ففي عام 1967 احتجت تركيا بقوة علي الاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية «كامل فلسطيني». وفي عام 1980 أنزلت أنقرة علم الممثلية الدبلوماسية الإسرائيلية لديها ردا علي قرار ضم القدسالشرقية واعتبار «القدس الموحدة» عاصمة أبدية لإسرائيل، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصي في 28 سبتمبر عام 2000 وصف الرئيس التركي السابق «أحمد نجدت سيزر» الأعمال الإسرائيلية بأنها «عنف واستفزاز» وفي عام 2002 وصف رئيس وزراء تركيا السابق بولنت أجاويد حملة الجيش الإسرائيلي علي مخيم جنين المسماة حملة السور الواقي بأنها «إبادة للشعب الفلسطيني»، وفي يناير 2009 خلال مؤتمر «دافوس» عبر أردوغان عن غضبه بقوة ورفضه لما قاله الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز تبريرا للعدوان علي غزة في حملة «الرصاص المصهور» أواخر عام 2008، وانسحب من علي المقصة في مشهد لا ينسي، وتكررت المواقف المتوترة من احتجاج إسرائيل علي إذاعة مسلسلات تركية تصور الاعتداء الوحشي للجنود الإسرائيليين علي الفلسطينيين، وواقعة الكرسي المنخفض خلال استقبال سفير تركيا في تل أبيب بوزارة الخارجية (يناير 2010).. إلخ. وفي الفترة الأخيرة تجمع عديد من الأسباب لدي الطرفين لتزيد من حالة التوتر في العلاقات، فتركيا فوجئت بالعدوان الإسرائيلي علي غزة في وقت كانت تقوم فيه بوساطة في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا، وعلي الضفة الأخري اعتبرت إسرائيل سعي تركيا للبحث عن حل سلمي للملف النووي الإيراني وصولا للصفقة التي عقدتها هي والبرازيل مع إيران لتبادل اليورانيوم المخصب في تركيا موقفا مضادا لإسرائيل التي تحرض بقوة ضد إيران وتحث علي عمل عسكري ضدها، كذلك فتعزيز علاقات تركيا وسوريا في مختلف المجالات اعتبر موقفا معاديا لإسرائيل ووصل إلي حد اتهام تركيا بالانضمام لمحور «إيران - سوريا - حزب الله - حماس» المعادي لإسرائيل، إضافة إلي أن إسرائيل تري أن تركيا أصبحت تنافسها بقوة علي مكانتها في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والتي كان تقوم علي اعتبار إسرائيل الدولة الإقليمية الكبري في المنطقة، فقد تراجع الدور الإسرائيلي بعد أن «خسرت إسرائيل قبل ثلاثة عقود إيران، وبخسارة تركيا باتت وحيدة في محيط معاد ومضطرب وخطر علي وجودها، ومشكلة إسرائيل مع تركيا تختلف عن إيران، فتركيا جزء من العالم الغربي وعضو في حلف الأطلنطي ولديها علاقات ممتازة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وتطمح لعضوية الاتحاد الأوروبي». وتقول صحيفة هآرتس حول الدور الإقليمي لتركيا، إن ما يجري «يعكس ظاهرة صعود قوي عظمي جديدة.. تسعي إلي أن تحقق في الساحة العالمية قوتها السياسية والاقتصادية المتعاظمة.. الواقع العالمي يدل علي أن ألمانيا، اليابان، الهند، تركيا، البرازيل.. وربما أيضا استراليا وكوريا الجنوبية وغيرها «تقضم» مما اعتبرت من قبل القوي العظمي، العالم يتغير.. وعلي إسرائيل أن تفهم أنه في ميزان القوي العالمي عليها أن تراعي القوي العظمي الوسطي». والواقع أن الدور الإقليمي لتركيا يأتي ليسد فراغا هائلا في المنطقة ناتجا عن غياب الدور العربي تماما والانقسام بين ما يسمي «دول الاعتدال» ودول الممانعة وعجز كلتيهما عن التأثير في المنطقة والعالم وتراجعهم أمام إسرائيل، التي بالرغم من مشاكلها تفرض نفسها كدولة كبري إقليمية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، كذلك غاب دور مصر الإقليمي عقب كامب ديفيد واتفاقية الصلح بين السادات وبيجن 1979، وبدت مصر في الآونة الأخيرة مشاركة في الحصار الإسرائيلي لغزة. وفي ظل هذا الواقع فالدور التركي الإقليمي مطلوب ومقدر ولا يمكن الاستغناء عنه.