عندما نقول تمثال خفرع كان المقصود هو التمثال المصنوع من حجر "الديوريت".. صحيح أن هناك عدداً كبيراً من التماثيل التي وصلتنا لهذا الملك الجبار منها تمثال "أبوالهول" في منطقة أهرام الجيزة.. وهو يصور رأس الملك علي جسم أسد رابض.. وهناك تماثيل اخري لخفرع من الحجر الجيري وغيره من الخامات الصلبة ولكن هذا التمثال هو الوحيد الذي يكاد يكون سليما.. وقد عثر عليه ضمن مجموعة من تماثيل متشابهة بل ومطابقة له كانت ملقاة ومدفونة في بئر معبد الوادي الجرانيتي المقام بجوار أبوالهول. والتمثال يصور الملك بالحجم الطبيعي جالسا باسطا ذراعيه علي فخذيه بعظمة ووقار ويده اليمني قابضة علي زمام الحكم واليسري مبسوطة علي الركبة.. ويلبس علي رأسه الكلفت KLeft والعرش الذي يجلس عليه الملك يحمله أسدان اكتفي الفنان بنحت رأسيهما وسيقانهما.. وقد نقش علي جانبي الكرسي نحت بارز يصور نباتي اللوتس والبردي بأزهارهما التي تتعانق بشكل زخرفي جميل. والوجه ينظر إلي الأمام.. وخلف الرأس يقف الصقر المقدس "حورس" ناشرا جناحيه رمزا إلي الحماية.. وقد أتقن النحات تصوير الصقر برأسه ومنقاره القصير وعينيه المدورتين الحلوتين.. لكن هذا الصقر لا يظهر منه شيء للواقف امام التمثال.. وبالطبع كان الهدف من ذلك الا يظهر إلي جانب رأس الملك ما يقلل من أهميتها.. ويدلنا تمثيل الصقر خلف رأس الملك علي عقيدة المصريين في مليكهم الذين اعتبروه وارث ملك مصر من الصقر المقدس.. وانه وارث ملك مصر "حورس" علي الارض.. اله الاحياء. بينما تصوير الملك علي هيئة أوزوريس تعني ملكه وسلطانه علي الموتي.. فالصقر ليس رمز الحماية فقط وانما رمز العطاء والسلطان والملك للفرعون. لقد حكم خفرع مصر لمدة 56 عاما منذ 4600 سنة تقريبا.. وتميز حكمه بالقوة والاستقرار والقبضة الصارمة علي السلطة وهي المعبر عنها في قبضة اليد اليمني.. والتمثال كله يعبر عن الهيبة والالوهية.. انه يلقي نظرة هادئة واثقة ليست نظرة بشر حتي ان "ويلي ديورانت" يقول في وصفه لهذا التمثال: "ان الهيبة التي تنطق بها قسمات خفرع تجعل الرائي يحس انه ملك. وان لم يحمل التاج علي رأسه. ولعل هذا التمثال أروع أعمال النحت في العالم كله. ويضيف: "أننا ندرك هيبته من كل جزء صغير في جسمه. فهو يمثل انسانا متباهيا صريحا جريئا ثاقب النظرات. أشم الأنف. قويا في تحفظ وهدوء.. لقد اجتاز هذا التمثال حقبة من الزمان طولها 50 قرنا. ثم وصل الينا ولم تكد تؤثر فيه عوادي الدهر ونوائبه. لقد صنع من أصلب الحجارة وأشدها استعصاء علي الانسان ولكنه ينقل إلينا أقوي ما يكون النقل قوة الملك وبالتالي قوة الفنان الذي صنعه من الناحية البدنية وسلطانه وعناده وصلابه رأيه وبسالته وذكائه. ويقول "ماسبيرو": لو أن معرضا أنشئ لروائع الفن في العالم كله لاخترت هذا التمثال رمزا لعظمة الفن المصري". ويقول "هول": "أن المصريين يتصدرون نحاتي العالم القديم وفي تاريخ الفن كله.. التماثيل ساكنة لا تتسم بطابع الحركة.. وربما يرجع السر في ذلك إلي الاهتمام بالرأس وحده أما باقي الجسم فيكاد يكون متشابها في أوضاع التماثيل كلها.. والتماثيل هي تماثيل "تصويرية" أي ليست من الفن التجريدي في شيء. ويلاحظ أن أعمال النحت في الدولة القديمة المعاصرة لتمثال خفرع استخدمت في صياغتها خامات مختلفة مثل: الجبس والخشب والحجر الجيري والاحجار الصلدة متعددة الانواع.. وكان أغلبها بحجم أصغر من حجم الانسان الطبيعي الا ما كان منها للملوك فكان مماثلا للحجم الطبيعي أو أكبر من البشر. وكان من المعتاد تلوين التماثيل لاضافة العناصر الطبيعية والحيوية عليها.. وقد نجح الفنان المصري القديم في استغلال مزايا كل خامة مع المحافظة علي خصائصها وابراز طاقاتها.. وفي هذا التمثال يقوم الصقل المتقن الذي بذل فيه الفنانون جهدا غير محدود بدور شبيه بدور التلوين. اذ تحول الديوريت المستعصي الصلب إلي ما يوحي بالليونة. وفي نفس الوقت يكشف عن قدرة الفنان واصراره ومهارته وتحكمه في الخامة بحيث يتغلب عليها مهما كانت مستعصية. ونستطيع ان ندرك مدي صلادة الديوريت اذا عرفنا انه في جدول الصلادة يقع في المرتبة التالية مباشرة للماس. أي أنه يستطيع خدش جميع الاحجار والخامات الاخري ويمكن استخدامه في نحتها بينما لا يخدشه أو يحفر فيه الا الأقوي صلادة منه وهو الماس.. عندما نعرف هذه الحقيقة التي يوردها الدكتور زكي اسكندر ومحمد زكريا غنيم في ترجمتهما لكتاب الفريد لوكاس عن "المواد والصناعات عند قدماء المصريين" ندرك أن تشكيل هذا التمثال يمثل معجزة بكل معاني هذه الكلمة. ان المثال المصري المعاصر المرحوم محمود موسي الذي تخصص في نحت التماثيل مباشرة في الاحجار الصلدة. تصدي ذات يوم لنحت تمثال لحمامة في حجر الديوريت.. ورغم خبرته الطويلة والادوات الحديثة المتاحة له فانه عندما أتم نحت هذا التمثال الصغير وبدأ مرحلة الصقل فوجئ بما يتطلبه ذلك من جهد طويل قد يمتد شهورا. ولم يصقل من الحمامة إلا رأسها وتوقف لفروغ صبره. أما المثال عبدالبديع عبدالحي فقد أعلن اكتشافه لنوع من "الزلط" عثر عليه في الأقصر بالبر الغربي حول قرية القرنة هذا "الزلط" قادر علي خدش ونحت حجر الديوريت.. وقد استخدمه في تشكيل أحد تماثيله.