مع بدايات القرن العشرين اكتشف "ك.دي سارزيك" في منطقة "تللو" بشمال العراق بين حفريات المدينة التي كان يطلق عليها قديما اسم "لجش" حوالي ثلاثين تمثالاً "لجوديا" وكلها مفقودة الرؤوس.. ومعظم هذه التماثيل تحتل حالياً قاعة خاصة من قاعات متحف "اللوفر" بباريس وتسمي قاعة "جوديا". هذه التماثيل عثر علي الرءوس بعضها في نفس المكان والبعض الآخر في أماكن أخري ولكن معظمها كان مهشماً ومشوهاً ويحتمل أن رءوسها قد قطعت في فترات انتقال الحكم من دولة إلي أخري أو بسبب تحريم الأديان السماوية لعبادة الأوثان. وتكتسب هذه التماثيل أهمية خاصة في تاريخ الفن العراقي القديم للأسباب الآتية: الأول: هو أنها تماثيل ضخمة الحجم يصل بعضها إلي ضعف الحجم الطبيعي بينما لا يقل أصغرها عن نصف الحجم الطبيعي هذا في حين أن الآثار "السومرية" و"الأكادية" التي سبقت هذه المجموعة من التماثيل كلها صغيرة الحجم حتي لا تقارب أحجام تماثيل هذه المجموعة أو تقارن بها. والثاني: هو أن معظمها منحوت في حجر "الديوريت" الشديد الصلادة والقسوة مما يجعل معالجته تتطلب مهارات وخبرات وأدوات خاصة مع صبر شديد إذ قد يستغرق العمل في التمثال الواحد عدة سنوات. والثالث: هو أنها رغم ثقلها وضخامتها لم تستخرج خاماتها من أرض العراق لأن هذا النوع من الأحجار لا يتوفر فيما بين النهرين لقد استوردت أحجارها الضخمة من أرض "ميجان" التي يعتقد أنها منطقة "عمان" حالياً وهي منطقة يتردد ذكرها في الكتابات "السومرية" و"الأكادية" مع اسمين جغرافيين آخرين هما "ديلمون" أي البحرين و"ملوخا" التي يعتقد أنها الهند. انتصرت مدينة "أكاد" علي مدينة "سومر" فقضت بذلك علي الحضارة السومرية الأولي ولكن عندما ضعفت الدولة الأكادية تمكنت قبائل "الجوتي" وهي قبائل جبلية بربرية متعطشة للقتال" من غزو المملكة الأكادية لكن هذه القبائل لم تستطع أن تتعود حياة المدن فلم تلبث مدينة "أور" بجنوب العراق أن تستجمع قواها وتطرد المغتصبين تحت قيادة "أورنامو" الذي أعلن نفسه ملكاً علي سومر وأكاد. وأسس الأسرة الثالثة لملوك "أور" سنة 2112ق.م.. ثم ظهر حكم سومري شبه مستقل في مدينة "لجش" تحت زعامة "جوديا" الذي حكم في نفس الوقت الذي حكم فيه "أورنامو" وابنه في مدينة "أور". ويقدر تاريخ قيام حكم "جوديا" بعام 2060ق.م. وقد أعاد إلي مدينة "لجش" ما فقدته بسبب غزو قبائل "الجوتي" التي كانت قد هدمت المعابد ونكلت بالسكان ونهبت تماثيل الآلهة.. فأعاد جوديا تشييد المعابد وهيأ للأهالي حياة تتسم بالعدل والرحمة فتعلقوا به وأحبوه إلي درجة أن اتخذوه إلهاً.. ومن المعروف أن تأليه الملوك فيما بين النهرين كان مسألة نادرة. إننا نجد علي نقش من نقوشه التي عثر عليها نصاً يفتخر فيه بما حققه لشعب مدينته ويقول فيه: لم تكد سبع سنين من حكمي تمضي حتي استوي الخادم بالمخدوم والعبد بسيده وأمن الضعيف شر القوي. وقد ازدهر فن النحت في "لجش" التي أصبحت رائدة لهذا الفن كما وكيفاً خلال قرن كامل من الزمان ويرجع الفضل في ذلك إلي "جوديا" الذي اهتم بفن النحت وظل نحو خمسة عشر عاماً يرفض حمل لقب الملك مكتفياً بلقب "انسي" أي الكاهن الذي يلي الملك في منصبه ويتولي المهام الدينية والسياسية معاً. لقد جعل جوديا من مدينته مجتمعاً ثقافياً فريداً وملأ قصورها ومعابدها ومرافقها العامة بالتحف الفنية وقد روي "هيروديت" و"ديود وروث" أنهما رأيا في مدينة "بعل" عدداً كبيراً من التماثيل الذهبية الكاملة لاستدارة وكانت هائلة الحجمن ولكن للأسف لم تبق التماثيل المعدنية إلي اليوم وكانت هناك أيضاً أعمال من الطين والفخار والخزف فالحضارة في منطقة "الجزيرة" عند مصب نهري دجلة والفرات هي حضارة طينية لعدم توفر الخامات الحجرية بتلك المنطقة كما أن عدم توفر المعادن جعل التماثيل والآثار المعدنية المتبقية نادرة الوجود لأن رطوبة المنطقة والفروق الهائلة في معدلات درجات الحرارة بين الصيف والشتاء وبين الليل والنهار أدت إلي تحلل معظمها لكل هذا تكتسب تماثيل جوديا "السليمة نسبياً" أهمية خاصة ومكانة عالية في تاريخ الفن العراقي القديم. تظهر تماثيل "جوديا" في وضع الجالس أو الواقف وهي تمثل الحاكم في مظهر التواضع الذي يتخذه المتعبد أمام الإله مضموم اليدين أمام صدره وكأن إحداهما تصافح الأخري كالمواطنين البسطاء وأن بدا واثقاً من نفسه كل الثقة أما ملابسه فهي كثياب الرهبان التي احتفظت بالشكل القديم لثياب العراقيين عندما كانوا يرتدون فراء الحيوان هذه الثياب تكشف عن الكتف والذراع فوجد الفنان فرصة ذهبية لإظهار براعته في نحت هذا الجزء العاري من الجسم. كما نحت اليدين بدقة متناهية حتي تظهر أظافر الأصابع مطابقة للطبيعة وفي بعض هذه التماثيل نجد أن الأقدام قد نحتت في غلظ ملحوظ بينما تبلغ في بعضها الآخر مرتبة عالية للغاية في دقة التنفيذ المطابقة للطبيعة. أما الرءوس التي وجدت فمعظمها مهشم ولكن هناك رأس موجود في متحف "بنسلفانيا" في أمريكا وكان يسمي "بالرأس المعم" قبل اكتشاف حقيقة أنه لأحد تماثيل جوديا الموجود حالياً في المتحف العراقي ببغداد.. وهو يتميز بدقة في التعبير رغم ما أصابه من تشويه وتؤكد نظرات عينيه المستقرتين ووجنتيه البارزتين وذقنه المدبب وشفتاه الدقيقتين إصراره علي ألا يرد له أمر وهي الصفة التي تتردد في النقوش المسجلة علي أختامه وتماثيله. وتكشف تماثيل جوديا عن مظهره البدني كرجل قصير القامة غليظ العنق حتي أن رأسه يبدو وكأنه مغروس بين كتفيه بلا رقبة كما نلاحظ أن النحاتين قد حرصوا علي تصويره مبرزين شكله طبقاً لسنه فنحتوا له تماثيل في مختلف مراحل العمر بين الخامسة والعشرين والأربعين. ويلاحظ أن من بين هذه التماثيل ما تصوره في مظهر الإله مثل تمثاله الواقف وهو يحمل بين يديه الإناء المتدفق أو الفوار وهو إناء الخصوبة التي هي من صفات الإلهة وحدهم ويفيض من الإناء مجريان من الماء علي الجانبين كل منهما في أربعة خطوط تتموج في حركة تمثل الحياة وتنتهي المياه المتدفقة من هذين المجريين إلي آنية أخري علي الأرض تتدفق منها بالتالي سيول تروي الأرض وتخصبها وعلي سطح تياري الماء المنسكبين أسماك تسبح في عكس اتجاهها والرداء مزركش الحواف ينبض بالحياة ويعتبر تمثيل الماء في النحت المجسم عملاً جريئاً لم يتصد له إلا قلة من النحاتين علي مر التاريخ. ولهذا نري دلائل الإصرار والتصميم في تماثيل جوديا وبشكل خاص في هذا الوضع الذي يصوره كاله. وفي هذه التماثيل نلمس عناية المثالين بإبراز التفاصيل وصقل الحجر صقلاً متقنا بينما تدلنا الملابس علي ضخامة واكتناز الأجسام تحتها مع إبراز عضلات الكتف العاري الواضحة التقسيم في شكل طبيعي لا تظهر فيه مبالغات التماثيل الأشورية التالية التي وصلت إلينا من عصر لاحق. أما النقوش التي تشغل مساحة كبيرة من الثياب التي يرتديها جوديا في تماثيله فهي بالكتابة السماوية التي تبدو كنوع من التطريز ولكن التلف الذي أصاب معظمها جعل قراءتها صعبة.