أخطر نقائصنا هي أننا لا نجيد الدعاية والاعلام عن نقط القوة ومصادر الفخر لدينا.. الحضارة في بلادنا أقدر وأعمق وبداية النهضة في أوروبا ارتكزت علي النقل عنا بعد الحروب الصليبية وتوثيق الصلات التجارية عبر منطقتنا التي تتوسط أوروبا وآسيا.. لكن اذا كنا نحن نجهل الكثير عن أنفسنا فكيف نفاخر الأمم؟ اذا عرفنا شيئاً في احد بلادنا نجتهد كي نحجب بقية الأشياء التي بالبلاد العربية الأخري فالعراقي ان عرف شيئاً عن حضاراته القديمة السومرية والبابلية والآشورية فانه يجهل كل شيء عن الحضارة المصرية القديمة ولا يعرف الا اسمها. الذي يستيقظ في النفس مع ذكره شعور بالكراهية والرفض نتيجة لهجة التوراة والقرآن في ذم "فرعون مصر". والأمر نفسه ينسحب علي المصريين الذين يجهلون تراث المنطقة ولا يعرفون قيمة ما لديهم أما المتخصصون في التراث والاثار فلا هم لهم الا التعصب لقطرهم والاعلان في كل لحظة ان ما اكتشف لديهم أفضل وأعرق وأقدم مما لدي غيرهم خاصة في البلاد العربية الأخري. ولأننا تنقصنا نظرة الحب والموضوعية لتراثنا القديم بحضاراتنا العريقة رحت أبحث وأنقب مستخدما شبح "تاريخ الفن المقارن" ومطبقاً اياه علي تراثنا القديم محاولا بأقصي قدر من الموضوعية ان أكشف عما أخفاه التعصب الاقليمي من ناحية وما تعمد اهداره انتشار الفكر السلفي الذي يدعو إلي كراهية الفن من ناحية أخري. ان إعلامنا مقصر ونحن لا نجيد الدعاية لأنفسنا حتي تجرأت اسرائيل وراحت تنشر بين عامة الناس في الغرب أكذوبتها المفضوحة عن قيام الاسرائيليين ببناء الأهرام التي شيدت قبل ظهور الموسوية بألف عام. وهناك أمثلة كثيرة لقطع فنية نهبت من بلادنا تفاخر بها متاحف الغرب فاشتهرت باعتبارها أجمل تراثنا بينما نملك في بلادنا ما هو أفضل منه وأسوق في هذا المجال تمثالي الكاتب المصري الجالس القرفصاء وكلاهما من الاسرة الخامسة بالدولة القديمة منذ أربعة آلاف عام أحدهما متحف اللوفر بباريس والاخر بمتحف القاهرة. كاتب اللوفر أكثر شهرة وذيعا من كاتب المتحف المصري ويعتقد الكثيرون ان الأول أفضل من الناس في حين ان كاتب اللوفر يصور خادمنا يقظا بينما كاتب المتحف المصري يصور أميرا واثقاً واذا وضعنا أحدهما إلي جوار الاخر تبينا أيهما أكثر احتراما لقوانين النحت وخطوط التكوين الهرمي وهذا لا يتعارض مع حقيقة ان كلاهما عمل فني عظيم ومعبر وفي البلاد العربية تميز حضارات الأنهار التي بدأت في وقت متقارب وأقصد بها حضارة النيل وحضارة ما بين النهرين. ان اكتشاف الزراعة حدث علي ضفاف هذه الانهار في وقت واحد. وسارت الحضارتان خطوات متماثلة مع تطور الزمن فتحقق هنا وهناك أول مجتمع انساني متحضر في زمن كانت فيه أوروبا في مرحلة البربرية. والدراسة المقارنة التي أقدمها في السطور التالية هي الدليل علي كل ما أقول وأعزم.. فنحن أول من تصدي لإخضاع أصلد الخامات واقساها ومن منطقتنا نشأت الجذور الاولي للفكر التجريدي والفكر الواقعي.. وعندنا نشأ الفن وحضارة الاغريق استمدت جذورها منا.. اننا باختصار شديد نملك في منطقتنا الدليل علي أبوتنا للمدنية في العالم المعاصر. يعتبر تمثال الملك "خفرع" المنحوت في حجر الدبوريت أول تمثال بالحجم الطبيعي صنع من هذه المادة في التاريخ فهو يرجع الي فترة حكم خفرع لمصر الذي ينتمي إلي الاسرة الرابعة بالدولة القديمة 4600 سنة تقريبا كما ان تماثيل جوديا هي أول تماثيل كبيرة في العراق القديم تنحت في هذا الحجر وبأحجار تقارب حجم تمثال خفرع وتزيد عليه وقد صنعت بعد تمثال خفرع بفترة تقدر بحوالي 540 سنة تقريبا فتاريخ اعتلاء جوديا للعرض يرجع إلي 4060 سنة مضت تقريباً. ان جوديا معاصر للاسرة الثانية عشرة بالدولة الوسطي في مصر. فقد اكتشفت مراسلات بين ملوك هذه الاسرة المصرية وأسرة "أور" الثالثة المعاصرة لحكم جوديا في العراق وبأسرة "أور الثالثة" هي التي حررت مدينة "أور" سنة 2112 ق.م من "قبائل الجوتي". والفارق الزمني بين الاثنين هو فارق لا يذكر فخمسة قرون هي فترة بسيطة نسبياً في سباق هذه الحضارات التي امتدت لثلاثة الاف عام. ولهذا فالمقارنة بين تمثال خفرع المصنوع من الديوريت ومجموعة تماثيل جوديا المصنوعة من نفس المادة هي مقارنة ممكنة وسنختار تمثال المتحف العراقي الذي يصور جوديا جالسا في وضع مماثل لتمثال خفرع الجالس. ان كلاً منهما يمثل أول محاولة لمعالجة هذه الخامة القاسية في كلا البلدين بل في تاريخ الفن علي مر العصور.. كما ان البدء من استخدام هذه الخامة في التمثالين هو هدف يشترك من زاوية الانتصار علي أقسي الخامات وتحقيق نوع من الخلود لصاحب التمثال.