من وحي نافذتكم ".. وتستمر الحياة" رأيت في قصتي ما يستحق أن يخرج إلي الناس ويشد من أزرهم في مواجهة الخطوب والمحن خاصة إذا كان الابتلاء في قرة العين.. في ابنك.. أو ابنتك! بداية أعرفك بنفسي.. أنا سيدة تجاوزت السبعين من العمر.. عشت حياتي كزوجة لرجل صالح يتقي الله في أهل بيته ويتحري لهم الرزق الحلال.. وكأم لستة من الأبناء جعلوني أمام مسئوليات وأمنيات لم يكن لأبيهم تلبيتها من راتبه الحكومي المحدود بل أعانه عليها بعض مما تحصلنا عليه من ميراث لي وميراث له.. أعانه عليها خروجي للعمل أحياناً في دار حضانة أو جمعية خيرية - وهو ما كان يتمناه لي - لنواجه معاً نفقات تعليم أبنائنا الستة باعتباره هدفاً عاهدنا أنفسنا ألا نحيد عنه مهما بلغت التحديات. كان أكبر تحدي في حياتنا هو مرض ابنتنا الجميلة "علياء" فهي الوسطي بين أخواتها وتعاني منذ طفولتها من مرض عضال "أنيميا الفول" هذا المرض الذي كاد يعطل مسيرة دراستها ويحرمها من تحقيق حلمها في الالتحاق بالجامعة حين رشحها المجموع لاحدي كليات الأقاليم فخشيت عليها من الغربة ومن الأزمات الصحية المفاجئة التي قد تتعرض لها.. وتحملت ووالدها في سبيل اسعادها نفقات مضاعفة حين ألحقناها باحدي الأكاديميات الخاصة لعلوم الحاسبات. وكما عودتني اجتازت حبيبتي السنة الأولي بالنجاح وفي السنة الثانية اشتدت بها وطأة المرض وكانت بحاجة إلي نقل دم سريع ودخلت المستشفي الحكومي لتحصل علي الدم المطلوب وليتها ما حصلت عليه.. كان دماً ملوثاً تسبب في تآكل المفصل بإحدي الساقين حتي وصل إلي منطقة الحوض!! كادت ابنتي تضيع مني في تلك الأزمة لولا ان الله سلم وتم إنقاذ ساقها من سموم الدم الملوث وظننت انه آن الأوان لكي أصل إلي هدنة مؤقتة مع الأحزان والآلام.. لكن لم يمض وقت قصير حتي حملت لي الأيام فجيعة فقد الزوج شريك العمر ورفيق الدرب.. وكانت وفاته سبباً في دخولي أزمة جديدة تبادلت فيها وابنتي الغالية الأماكن حين خضعت لجراحة خطيرة لاستئصال ورم خبيث وعند خروجي من العمليات سجدت حبيبتي لله شكراً فقد بشرها الأطباء بنجاح الجراحة قائلين لها: "أمك ست طيبة.. لا نعلم كيف أجرينا العملية كل شيء مر بسلام؟!". هكذا كانت كلما تلم بنا الشدائد يزداد تعلقنا ببعضنا البعض خاصة بعد ما تزوج كل أبنائي ولم يعد معي في البيت سوي "علياء" التي وصلت إلي منتصف العشرينيات من العمر وهي لا تزال تصارع ذاك المرض الذي حال دون استكمال دراستها في الأكاديمية حين أقعدها عن الحركة أربع سنوات.. ومن الغريب انه عندما قامت ثورة يناير ظلت تلح عليّ الذهاب بها إلي الميدان فنزلت علي رغبتها واستأجرت سيارة لتصحبنا إلي هناك لكن حالت لجان التنظيم دون دخولنا إليه.. فكيف ندخل وسط حشود بشرية بسيارة؟! لكنها وكما عهدتها لم تعرف قرة عيني اليأس فراحت سريعاً تنخرط في متابعة أخبار ثورات الربيع العربي عبر النت والفضائيات وصارت لصيقة المشاهدة بالقنوات التي تمدها بالغذاء الروحي مما أعانها علي استعادة كثير من حركتها بفضل الله.. هذا الفضل الذي ما كانت ان تقابله إلا بمداومة الصلاة ليس في البيت وإنما في المساجد.. وفي شهر رمضان كانت تصر علي ان اصطحبها لأداء التراويح والقيام.. ولم تكتف بذلك بل أخذت علي عاتقها مهمة تعليمي السيرة النبوية وحياة نساء الرسول.. و.. وحين تراني حزينة أنعي هؤلاء الذين حرموني وأباها من باقي ميراثنا بالصعيد تقول: "سامحي يا أمي.. فمال الدنيا إلي زوال". معان عظيمة ظلت تأخذني إليها.. وتعمل بها حتي آخر لحظة في حياتها فقد توفيت "علياء" منذ سبعة أشهر بعد صراع العمر كله مع هذا المرض العضال.. اختارها الله إلي جواره في خير أيامه.. يوم الجمعة وبعد أيام من رحيلها جاءني يطرق الباب.. انه ابن شقيقتي المقيم بالصعيد.. أتي علي غير موعد وبغير علم بوفاة ابنتي ليحمل لي البشري فقد انتهي من تجهيز أموره وصار في وضع يسمح للتقدم لطلب يد "علياء" فهي التي عاش يحلم بالزواج منها.. وسرعان ما ألجمته الصدمة حين علم بأن فتاته غادرت دنيانا للأبد!! محنة قاسية زادتني صبراً وجعلتني أتقمص روح ابنتي الوّثابة لأنشر دعوتها لكل يائس حزين.. اجعلوا زادكم الصبر واسألوا الله ان يكفيكم شر مرض القلوب. الأم الثكلي: ع. م - القاهرة û المحررة كتبت لنا عن ابنتك الراحلة علياء التي كان لها حظ كبير من اسمها حين تسامت فوق جراحها وتعايشت مع المرض العضال الذي لازمها العمر كله دون ان يثنيها عن الطريق الذي رسمته لنفسها حين أدركت بأن الحياة بكل مرارتها وأوجاعها جديرة بأن نحياها.. فلم تترك الحدث الأكبر الذي عاشته مصر كلها حين قامت الثورة ان يمضي بعيداً عنها بل سعت تتلمس الطريق فوق مقعدها المتحرك إلي الميدان!.. وسعيت أنت أيضاً أيتها الأم المؤمنة لتحدثي الدنيا عنها ليس طلباً لرثائها - رغم استحقاقها هذا الرثاء - وإنما لتبعثي برسالة لكل أب وأم ابتلاهما الله في قرة أعينهم بأن الحياة لابد لها ان تمضي حتي لو فقدنا أعز الأحباب.. وأنه ليس من الغريب ان نتعلم من ابنائنا الذين نسعي دائماً ان يكونوا أفضل حظاً منا.. فتعلمت من ابنتك الغالية ما جعلك تتحملين صدمة فراقها بقلب مؤمن محتسب حين علمتك بأن تتخذي من الصبر سبيلاً. ومن التسامح والصفح نهجاً وسلوكاً حتي مع من ظلمونا.. وأهدروا حقوقنا.. وضيعوا أحلامنا!!