أشعر أحياناً أني صبي في ورشة. أسطواتها ديستويفسكي وبلزاك وفلوبير ونجيب محفوظ ويكنز وكافكا ومارسيل بروست وكامي وغيرهم. أتلمس التعلم في إنجاز كل واحد من هؤلاء المبدعين. الأسطوات: اللغة. التقنية. إجادة التقاط التفصيلات. إلخ.. قلة من أدباء الأجيال السابقة عرباً وأجانب لهم تأثير حقيقي علي كتاباتي. أو غيروا نظرتي إلي العالم. أو إلي تقنية الكتابة الروائية. أثروا في لفرط إعجابي بهم تأثيراً حاسماً. أنا أكتب ما يلح علي. ما يفرض نفسه. أكتب وأكتب وأكتب. لا أخطط لشيء. وقد تخطر علي بالي أفكار تبدو فناً جميعاً. وحين أبدأ في تسجيلها علي الورق. تتحول إلي ملامح باهتة أو فاقدة المعني. وأحياناً فإني أبدأ في كتابة عمل بتصور البداية والنهاية. لكن جريان القلم علي الورق يتعثر بعد الأسطر الأولي. ثم يتوقف تماماً. وأتبين عبثية ما أكتبه. فأحتفظ بالأسطر القليلة لنفسي. أو أمزقها. كأنها لم تكن. القول بأن الكلمة الأولي في "النص" يجب أن تكتب وعين الفنان علي النهاية. يحتاج بالنسبة لي في الأقل إلي مراجعة. ذلك لأني أحرص أن يكتب العمل الإبداعي نفسه. بصرف النظر عن نوع ذلك العمل. لعلي أذكرك بأن مبعث إقدام فوكنر علي كتابة روايته "الصخب والعنف" رؤيته هو يقود سيارته في الجنوب الأمريكي فتاة صغيرة تركب مرجيحة في حديقة بيتها. وكتب جارثيا ماركيث قصته "قيلولة الثلاثاء" بعد أن شاهد سيدة وطفلة يرتديان ثياباً سوداء. وتحمل كل منهما مظلة سوداء. وتسيران في الصحراء تحت شمس لاهبة. تبينت بعد اتساع قراءاتي وخبراتي ومخاطبتي للآخرين أني أستطيع الكتابة دون إعداد. دون نقاط مسبقة. أنا لا أضع ملفات مثلما كان يفعل نجيب محفوظ علي سبيل المثال وما يفعله أدباء آخرون. لورانس بلوك يلح في ضرورة التخطيط للرواية. قبل أن يبدأ الفنان كتابتها. وأن تنمو طيلة كتابة المؤلف لها "كما تنمو الحبكة" لكنه يدعو أيضاً لأن تنمو الرواية نمواً طبيعياً من واقع ما يكتب. بدلاً من ارتباطها ببيئة هيكلية. "مثل من ينصب تعريشة لأجمل الورد البلدي". لا أضع. في الوقت نفسه مخططاً عاماً. لا أرسم الملامح الظاهرة أو الجوانية للشخصيات. ولا أتقصي ماضيها. ولا أخطط للأحداث التي أضمنها السرد. ولا حتي التقنية التي ربما ألجأ إليها. وما إذا كنت سأكتب بصوت الكاتب الذي يعرف كل شيء. أم بصوت الراوي المخاطب. أم الراوي المشارك. أم أكتب بصوت الجماعة. أم ألجأ إلي تقنية تعدد الأصوات. أم ألجأ إلي المونولوج الداخلي؟ أحياناً يعروني قلق أو خوف. وأنا أفكر في الحرف الأول. الكلمة الأولي. الجملة الأولي. أعاني التوتر والارتباك والشرود. يجري القلم بالسطر الأول. فتغيب كل تلك المشاعر. بل إني أسلم مشاعري وقلمي للعمل الذي أكتبه. يتخلق من داخله الشخصيات والأحداث. حتي يكتمل في صورته النهائية.