يأخذ المشروع الإبداعي للكاتب محمد المنسي قنديل مسارا مزدوجا، من الواقع للتاريخ، ومن التاريخ للواقع، وفق رؤية تبحث عن حلول لأسئلة الحاضر، من خلال سمات وقسمات الإنسان المصري والعربي كما شكلها التاريخ، كل ذلك يعبر عنه المنسي بلغة أدبية رصينة وحس إنساني مرهف، في هذا الحوار حاولنا أن نقترب أكثر من عوالم المنسي قنديل الروائية، محاولين كشف سر اهتمامه بالتاريخ، وتأثير الوسائط الحديثة علي فن الرواية. ما سر اهتمامك الواضح في كتاباتك بالتاريخ، وما رؤيتك له؟ لدينا كنز اسمه التاريخ المصري، غني بالمصادر المختلفة، أستاذنا نجيب محفوظ اكتشف ذلك في وقت مبكر وكتب ثلاثيته التاريخية الشهيرة، ثم أخذ يعود إليه علي فترات، وكنت شغوفا منذ بداية قراءتي بالتاريخ، ليس العربي فقط ولكن العالمي أيضا، وأري أن له سحرًا خاصًا سواء كتب كعلم أو كرواية، فهم يحاولون إعادة إحياء عالم قد اندثر، وينفخون الحياة في شخصيات لا نملك لهم إلا صورا وهمية، وأحيانا يكون التاريخ بالنسبة لي مهربا من فجاجة الحاضر وعشوائيته، وأحيانا أذهب إليه بحثا عن إجابة عن الأسئلة التي تحيرني، ولولا التاريخ لفقدت إيماني بالشخصية المصرية، لأن الواقع الراهن يعطيني فكرة خاطئة ومشوهة عن هذه الشخصية، لما به من سلبيات وإحباطات، التاريخ يمكن أن ينقذ سمعتنا أمام أنفسنا. تحركت في رواية "قمر علي سمرقند" في فضاء مكاني جديد ألا تري أن تثبيت محيط مكاني يضمن نجاح المشروع الأدبي، كما في حالة نجيب محفوظ الذي ظل وفيا للحارة؟ أحيانا لا يختار الكاتب موضوعه، ولكن الموضوع هو الذي يختاره، كنت أريد أن أكتب رواية، وكنت وقتها أخوض في عدد من المشروعات الناقصة، ثم قمت عن طريق مجلة "العربي" التي كنت أعمل بها في الكويت برحلة إلي دول وسط آسيا، كانت دول حديثة الاستقلال، لم تتشكل ملامحها بعد، وقضيت رحلة طويلة عبرت فيها الحدود البرية من كازاخستان إلي أوزبكستان وهي رحلة طويلة تمتد إلي حوالي ألفي كيلومتر، ولكن عندما كنت في الطريق إلي مدينة بخاري وسمرقند، بدأت الرواية تتشكل في داخلي، كان التاريخ هناك يحاول النهوض من جديد ويكتسب آهاب الحضارة الإسلامية التي تغيبت عنها طويلا، وكان سائق السيارة الذي يقودنا شخص يجيد العربية واسمه "نور الله" نفس الاسم الذي اخترته بطلا لروايتي، وأدركت منذ اللحظة الأولي أن أمامي مشروع رواية، فأخذت أسجل كل شيء، أسماء الأماكن والأحداث والمعالم التاريخية، وفي الليلة الأخيرة من رحلتي قضيت الليل ساهرا في مقام الإمام البخاري في إحدي القري القريبة من سمرقند، وتولدت في ذهني كل أحداث الرواية دفعة واحدة، وأحسست أنها قد تملكتني تماما. هل تعتقد أن هناك مستقبلا للرواية في ظل الوسائط الحديثة التي ترسخ للجزئي والبسيط؟ اسمح لي أن أتحدث في هذا الأمر ببعض من التفصيل..لأنه بالفعل موضوع غاية في الأهمية بالنسبة للروائي وعمله، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو هل هناك فعلا رواية تنتمي للمستقبل وأخري تنتمي للماضي؟ عندما سألت ابنتي رضوي عن رأيها في إحدي روايتي، لوت فمها مترددة، توقعت أن يكن ردها قاسيا، ولكنها قالت: مش بطالة.. ولكن أسلوبها يميل للوصف، وليس "إنفورمتيف". ماذا كانت تعني ب"الانفورمتيف"؟ لم أفهم ماذا تعني، كنت أعتقد أنني قلت في الرواية كل ما عندي، وكل ما أعرفه في هذا الوقت، ولكنها قالت: من الصعب أن أشرح ولكن عليك أن تقرأ رواية "دافينشي كود"، وكانت تقصد ذلك الكم الهائل من المعلومات، إلا أني لم آخذ بنصيحتها، ولم أطلب منها حتي الرواية، وعندما حانت اللحظة السحرية، وظفرت بنسخة منها، منذ أن أمسكت بها لم أتركها، ارتفعت بي الطائرة وهبطت وأنا ممسك بها، لم تكن رواية عظيمة، ولكنها كانت شديدة الإثارة، وما أدهشني بالفعل هو أسلوبها، جمل قصيرة بسيطة ومباشرة ومعاصرة، ومليئة بالمعلومات، رواية لا يمكن أن يكتبها مؤلف بمفرده، ولكن يجب أن تؤازره في ذلك شبكة هائلة من المعلومات، للمرة الأولي أكتشف ذلك الحضور القوي والواضح لشبكة الإنترنت، لا مجال هناك للحدس أو التخمين، وأصبح كل سطر يحتوي علي معلومة متكاملة لابد أن تقال، ليس مهما هناك اهتمام عن وجه النظر التي تروي منها الأحداث، وليس من الضروري إن كانت الشخصية الرئيسية في الرواية جاهلة أو عالية الثقافة، فالمؤلف حاضر هنا بكل عدته المعرفية، لا يختفي وراء الأحداث، ولا يرتدي قناع شخصية من الشخصيات. ألا يمكن كتابة رواية وفق رؤية إنسانية شخصية لا تستند إلي معلومات غزيرة علي غرار «شفرة دافنشي»؟ - الرواية الحديثة لا يمكن أن تستغني عن المراجع، والعديد من المؤلفين يحشدون خلفهم كما من الموسوعات، ويعترف ماركيز أنه يستعين بحوالي عشرين موسوعة علي الأقل عندما يقوم بعملية الكتابة، وفي الرواية العربية لم يجد صنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وغيرهما غضاضة في إضافة قائمة بالمراجع في نهاية بعض روياتهما، المعلومات ضرورية بلاشك، ولكن علي الكاتب أن يهضمها أولا، ويطوعها لمقتضيات القص ثانيا، وأن يجعل كل شيء ينساب من داخل الشخصية ولا يرتكز علي الوصف الخارجي للعالم، فعوالم غامضة مثل ديستويفسكي وفوكنر وساراماجو تلبس دائما عباءة الشخصية، وتقوم علي نوع من الاستبطان الداخلي تتبدي في خلفيته كل مفردات الفكر الغربي، وهو يعيد إنتاج هذه المفردات علي نحو مغاير، يرتبط برؤية المؤلف أكثر من ارتباطه بجذورها الفكرية، ولكننا أصبحنا الآن أمام نص مختلف، ليس هو النص المثالي، ولكنه الذي يجتذب قطاعا كبيرا من القراء أغلبهم من الشباب. هل أثرت وسائط الاتصال الحديثة علي إبداعاتك؟ وكيف؟ - وأعترف أن هاجس الإنترنت قد استولي علي وأنا أكتب روايتي الثانية "يوم غائم في البر الغربي"، كنت قد تطورت قليلا في استخدام الكمبيوتر، فقد وجدت أن استخدامه حتي بواسطة أصبع واحد أكثر فائدة من الورقة والقلم اللذان تعودت عليهما، خيل لي في البداية أنني أكتب نصا مسطحا، مجرد ومضات ضوئية لا يوجد فيها العمق الذي يخلقه الحبر علي الورق، ولكني قلت لنفسي إن الفرصة لازالت متاحة، فما أكتب لن ينشر، ولن يقرأه سواي، كما أن احتمالات التعديل والحذف والإضافة بلا حدود، وهي ميزة جديدة لم يحلم بها أي كاتب، وعلي سبيل المثال لم يكن ديستويفسكي يملك أي فرصة لتعديل مسوداته، فقد كان الدائنون يختطفون فصول روايته أولا بأول، ولكنها كانت تدور في فترة يعود تناولها تاريخيا إلي مائة عام للوراء، في بدايات القرن الماضي وهي الفترة التي برزت فيها إرهاصات الشخصية في الظهور، فقد اكتشفت في هذه الفترة مقبرة توت عنخ آمون، ولكن الاكتشاف الأكبر كان اكتشاف المصريين لهويتهم وذواتهم الشخصية، وأنهم ليسوا مجرد أرقام يموتون في الحروب والأوبئة والكوارث، ولكنهم شخصيات متفردة لها وجوه وأسماء ومصائر، المصرية المعاصرة، وكان بعد هذه الفترة هذا سبب آخر لأجد نفسي مشدودا إلي الإنترنت، تلك الشبكة العنكبوتية الهائلة، لا أورد معلومة دون الرجوع إليها، اكتشفت لحظتها مدي أهمية هذا الجهاز، فقد تم اختصار عشرات المراجع والموسوعات في ضغطة زر واحدة، وأدركت أخيرا أن الكمبيوتر يمكن أن يجعل حياة الكاتب أسهل، وأن الرواية المعاصرة، ولست أنا وحدي، قد أصبحت مرتبطة بهذه الآلة. هذه الرؤية الجديدة للرواية "الإنفورمتيف" هل هي خطوة للأمام أم للخلف؟ - كانت الانتقادات الحادة التي توجه للرواية عند ولادتها، أنها تكتب بلغة متدنية عن لغة الشعر، ولا تناقش قضايا المصير الإنساني كما يحدث في المسرح، وهي مرتبطة بالواقع أكثر من ارتباطها بالكون، وتبحث عن داخل الفرد لا داخل الكائن، ولكن الرواية صمدت لذلك، وأثبتت أنها تستطيع أن تسبر أغوار العالم، وأنها قادرة علي طرح الأسئلة الفلسفية الكبري، فماذا يمكن أن يحدث للرواية وهي تستعد لنقلة أخري خارج حدود الفرد لكي يصبح تأصيل العالم الخارجي برؤية موضوعية هو مبلغ همها.