الفانتازيا والمرض النفسي. مختلطان ومتلازمان هنا في آخر أعمال الممثل أحمد حلمي "علي جثتي". الخيال والتخيل متداخلان أيضا في هذ العمل.. وبوضوح أكثر. "رءوف" "أحمد حلمي" بطل هذه التجربة. إنسان مريض بالبارانويا يشك في زوجته. وموظفيه وحتي ابنه الصغير.. ما تقوله الزوجة بسلامة نية يتم ترجمته بصريا داخل عقل رءوف وأمامنا نحن المتفرجين من خلال صور تعني الطمع في ثروته. أو الرغبة في اعتلاء مكان داخل شركة الأثاث التي يملكها أو بدوافع جنسية لإثارة الموظفين العاملين بها. نفس الشيء بالنسبة للموظف أو الموظفة التي تقدم اقتراحا. أو تطلب نقلها من القسم الذي تعمل فيه إلي قسم آخر. يتم تجسيده في أشكال تكشف عن سوء الظن والشكوك الداخلية المسيطرة علي خياله ووعيه الباطن. هذه الشخصية التي تحتل واسطة المشهد ومركزه موضوعيا ودراميا يوحي مظهرها أحياناً بالصرامة والحدة والنزعة العملية والانضباط الشديد في العمل. وأحيانا مثلما نري في المشهد الأول من الفيلم يوحي بالخفة والاستظراف.. الأمر الذي يعد بجرعة كبيرة من الكوميديا وهو وعد لم يتحقق بقدر توقعات المتفرج. ورءوف شخصية مُضطربة. قلقة. مُنشطرة لا يتصالح مع ذاته. مظهره المتواضع يقول انه رجل "دقة قديمة" ملابسه شنبه تسريحة شعره وأداؤه. التفاصيل الظاهرية لا تنبيء بمظاهر الأبهة والفخامة البادية في معرض الأثاث العصري الذي يملكه ولا مكتبه المجهز بأحدث أدوات التواصل الاجتماعية وكذلك الفيلا الفخمة والأثاث الأنيق والتحف.. إلخ.. هذا التناقض الكبير بين المظهر والمخبز. بين الاضطراب والانضباط المفرط بين الشكوك المعششة في ذهنه ويترجمها خياله. إلخ.. هذه "الكومة" من التناقضات لم يُخضعها المؤلف لرؤية ما ولم يتم "عجنها" دراميا في كتلة متجانسة داخل تصميم فني متكامل البناء يخرج منه المتفرج برسالة أو رسائل محددة تمنح معني أو جوهرا لهذا الاضطراب شكلا ومضمونا. وعلي مستوي الفانتازيا -الخيال يشطح رءوف في عالم من صنع أوهامه وشكوكه المرضية عندما يصاب بغيبوبة كاملة بعد حادثة غرق بالسيارة أثناء بحثه ليلا عن طبيب بيطري يعالج كلبه "روكي". وفي هذا العالم الوهمي يلتقي رءوف برجل آخر "نوح" يؤدي دوره حسن حسني. وهذا الرجل يعمل مستشارا وقاضيا. وبسبب غيبوبة مشابهة خرج هو أيضا من عالمه المادي الواقعي. إلي عالم الخيال. قد خلق اللقاء بين هذين الرجلين صداقة. فكلاهما مجرد روح لا تظهر للآخرين. وصوت لا يسمعه أحد سواهما. وخيال لا ينعكس في المرآة ووجود في كل الوجود دون أن يشعر بهما أو يراهما أحد!! وبهذه الحالة يزور رءوف عالمه الذي غاب عنه من دون أن يتعرف عليه لكنه يسمع بأذنه ويري بعينه حقيقة مشاعر الناس تجاهه. بما فيهم زوجته وابنه وموظفوه.. ولكن هل هذا الذي يراه حقيقة؟! أم أنه مازال مجرد وسواس وضلالات لا أساس لها من الصحة؟!! فكرة مفقودة إذن رءوف رجل الأعمال صاحب الشركة ونوح رجل القانون التقيا في الخيال أثناء غيبوبة مرضية. وكان من الممكن أن يولد من هذا اللقاء الخيالي الذي منحه الفيلم وجودا ماديا بقوة خارقة وهمية. كان من الممكن أن يصبح خيطا دراميا بارزا في تدعيم "رؤية" ما يقدم عليها الفيلم لو كانت هناك رؤية أو قضية وفكرة فلسفية ميتافيزيقية من الأساس.. في مشهد المحاكمة يمر السيناريست سريعا علي فكرة تطبيق القانون ونصه الحرفي المجرد. الفكرة وإن كانت عادية ودارجة إلا انها بدت في سياق الحبكة مُعلقة في الهواء مثل "الريشة" التي كان ينفخها "نوح" في الفيلم في مشهد لم أفهم محتواه ولا علاقته بمسار الأحداث غير كونه نكتة أو طرفة لإثارة الضحك. كذلك فكرة الموت التي تتوارد علي عقل رءوف الغائب وروحه المعلقة بين الحياة والموت. وكانت بدورها أقرب إلي مونولوج داخلي. فلسفي وجودي عابر ويبدو بدوره غريبا أو نشازا في إطار تطور هذه الشخصية غريبة الأطوار. وما أردت أن أقوله في هذا السياق ان حبكة فيلم "علي جثتي" مثل الشخصية التي يتمحور حولها. لا يتكيء علي منطق يحكم العملية السردية. ولا خيط رئيسي يمكننا الإمساك به وتتبعه للوصول إلي نهاية مقنعة تتوافق مع منطق ولست أدري في الواقع ما هي خلاصة هذا الذي يدور أمامنا سوي طرافة الممثل وقبوله التلقائي لدي المتفرج وتواصله السريع معه. لم أخلص إلي فكرة واضحة في ذهن المؤلف ولا يوجد ذروة لا نقطة تنوير ولا ترابط عضوي بين كثير من التفاصيل التي لم يتحقق من ورائها سوي التسلية.. وإن كنت لم أتسل شخصيا وأيضا الغزل المباشر لنجم الأكشن أحمد السقا. والحشر المصطنع لخالد أبوالنجا الذي أدي نمرة استعراضية تافهة أمام غادة عادل التي لعبت دور "سحر" زوجة رءوف دون تأثير ملموس. شخصية رءوف عجزت عن إقامة علاقة مع المتفرج أثناء الفرجة. لا تعاطف. ولا رفض. ولا ضحك كثير يبسط الجمهور. فقط الاشتباكات الحوارية بين رءوف و بعض الشخصيات التي ظهرت في الفيلم مثل شخصية عسكري المرور استطاعت أن تثير فضول المتفرج والحوار العبثي في بداية الفيلم بين العسكري وبين رءوف يدل علي عبثية الكثير من أشكال التحاور بين الناس بعضها مع بعض حيث كل واحد في واد بعيد عن الآخر. وقد كتب الحوار بحرفية وذكاء. دلالة هذا الحوار الضاحك مع أول مشاهد الفيلم جعلنا نتوقع اننا بصدد كوميديا ذهنية -إن صح التعبير- بجرعة كبيرة من الفكاهة علي غرار كثير من أعمال أحمد حلمي. ولكن خابت توقعاتنا بكل أسف. ورأيي الشخصي أن فيلم "علي جثتي" أقل أفلام هذا الممثل الموهوب إثارة للضحك. وأكثرها ابتعادا عن روح الفكاهة المصرية وعن حساسية المتلقي الذي اعتاد علي فكاهة مباشرة تشبعه بالصخب والمواقف الضاحكة الصريحة والمرح علي الطريقة المصرية الشعبية. الاقتباس والإنتاج المحلي "الموضوع" .. في أعمال أحمد حلمي بما فيها الأعمال المقتبسة مثل هذا الفيلم يكون في الأغلب حاضرا وجادا في جوهره وله قوام. وليكن بداية ووسط ونهاية. أو رأس وذيل وجسد أو أيا كان شكل التكوين الفني.. وفي هذا الفيلم يوحد مفردات لموضوع لم يصنع فيها المؤلف جُمل درامية مفيدة. وتوجد امكانيات لخلق شخصية محورية تحمل جواز مرور مصري بدلاً من "رءوف" الذي لم يكن مصريا سوي في مظهره كشخص ومن دون مَخبَره كرجل أعمال يقيم في مصر. كما توجد في هذه التجربة نفسها فرصة لعدم الابتذال علي طريقة الأفلام التجارية التي اعتدناها. ولكن كيف يتأتي ذلك؟ فالمؤكد انه "مش مصري" ولن يجد من يغامر بتمويله.. والملاحظة التي لا أمل من تكرارها أن المسافة تتسع أكبر وأكبر بين الانتاج المصري بما في ذلك الأفلام المقتبسة من أصول غربية وبين الانتاج الغربي الذي أصبحنا نستقبله في بلادنا في نفس توقيت عرضه في أوروبا وأمريكا ونشاهده في نفس المجمع التجاري. وبمناسبة الاقتباس فإن نسبة كبيرة من الأعمال المصرية إما مقتبسة أو مستوحاة من الأعمال الأمريكية. حتي تلك الأعمال المأخوذة من روايات روسية أو أوروبية مثل "الأخوة الأعداء" وأنا كارنينا والبؤساء.. إلخ" فالاقتباس في مصر يتم مباشرة من شريط الفيلم السينمائي وليس من الرواية الأصلية التي اعتمد عليها. ليس هناك وقت لا للقراءة ولا الأصالة إلا فيما ندر. سحر ورفعت لعبت غادة عادل شخصية "سحر" زوجة رءوف وبدورها كانت شخصية مضطربة علي مستوي الكتابة رغم اجتهادها كممثلة. أعني بسبب القصور في عنصر التشخيص ورسم الشخصيات والتناقض غير المبرر إلا علي مستوي الخلل العقلي بين الخيال والواقع. وبين الظاهر والباطن.. والخلط بين الفانتازيا والهلاوس. إذ كيف -علي سبيل المثال- لزوجة مطيعة. مُحبة. تلتزم حرفيا بأوامر زوجها. وتتقبل ذوقه السقيم وغلظته و... ثم تتراءي له في الخيال كزوجة لعوب. خائنة. جشعة.. ونفس الشيء بالنسبة للابن رفعت الذي لعب دره جيدا الطفل "اعتذر بقوة عن عدم تذكر اسمه" رفعت تلميذ نابه يحصل علي درجات شبه نهائية. يعلق في حجرته صورة أينشتين التي لا يعرفها معظم المتفرجين علي الفيلم. ويقرأ للشاعر العربي "البحتري".. إلخ. ثم يظهر عبر خيال الأب كطفل كاره ومنتقم وعدواني.. إلخ. ونفس الأمر بالنسبة لجميع الموظفين في معرض الأثاث الذي يملكه رءوف. ورغم أي شيء لعب جميع الممثلين دورهم المرسوم بدقة لكنهم لم يستطيعوا أن يمنحوا "روحا" لمن لا روح له في الأساس المكتوب.. الوحيد الذي أضفي علي الشخصية قبساً من تمرسه الطويل. وتمكنه من هضم الشخصية هو حسن حسني الذي جعل من "نوح" شخصية مقبولة ومنسقة وليست بالخلل غير المنطقي لشخصية رءوف. والشخصيتان "رءوف ونوح" طارت فوق اعلان فودافون الصريح الذي تكرر في أكثر من مشهد وأخل قطعا بمستوي الفيلم وكرامة الفن من حيث كونه فنا. الاعلان الصريح هكذا لم يكن سوي اعلان ضمني عن قصر الانتاج والخلط بين الفن والاعلان شيء مرفوض لاشك. محمد بكير المخرج في هذا العمل السينمائي الأول في قائمة انجازاته. لم يترك علامة بارزة توحي بامكانياته القوية التي ظهرت في الدراما التليفزيونية "طرف ثالث" وإن احتفظ بحسن إدارة الممثل وهندسة الايقاع فلم يبد مضطربا ضمن الاضطرابات العديدة التي شابت الفيلم.. ومن الموضوعية أيضاً الاشارة إلي اختيار المناظر وأماكن التصوير شهدت كادرات عديدة علي حسه التشكيلي من خلال تكوينات جمالية لا تخطئها العين.