لم تكن النزاعات الإقليمية والحروب واحتلال الأراضي أخطر ما تتعرض له الشعوب في مراحل حياتها، لأن الإحساس بالخطر هو الذي يوحد الشعوب، وهذا ما رصدناه جميعا في خروج الشعب المصري عن بكرة أبيه رافضا تنحي عبد الناصر رغم الهزيمة القاسية واحتلال شبه جزيرة سيناء بالكامل في الخامس من يونيو 1956 أما ما يمثل خطرا حقيقيا على الأمم والشعوب فهو الانقسام وتهتك النسيج الوطني. ولذلك يجب ألا يمر انقسام الرأي العام للشعب المصري في اتجاهين متناقضين حول قضية محورية هي حق السيادة على تراب الوطن، لأنها تعد قلب العقيدة الوطنية، وهذا الانقسام الفريد في تاريخ الشعب لا ينبغي أن يمر دون دراسة وتحقيق وتمحيص، لأنه وقع بين فريقين كبيرين، ويحمل كل منهما في داخلة فرقا مناوئة ومتصارعة، فقد رصدنا فريقا يرى أن هناك جزء من أرض الوطن يعد حقا للغير ويجب أن يعود لأصحابه حسب تعبير هذا الفريق، وهي السابقة الأولى في التاريخ الشعوب حتى لو كان الحق لدولة جارة مسلمة وتقدم دعما اقتصاديا كبيرا لمصر، والفريق الثاني يرى أن العزة والكرامة الوطنية المصرية تستوجب التمسك بحق الملكية أو السيادة على الجزيرتين مستندا إلي وثائق التاريخ والدم من ناحية، ولأهميتهما الاستراتيجية ودورهما في التحول الاستراتيجي وبناء محاور جديدة وتقسيم جديد في المنطقة من ناحية أخرى، ترى ما السبب وراء هذا الاستقطاب الحاد حول قضية بهذا المستوى من الخطورة على الوعي والانتماء للتراب الوطني وعلى خريطة المنطقة في المستقبل القريب والبعيد ؟ لماذا وقع هذا التصدع في الوعي الجمعي للشعب المصري الآن وبدون سابق إنذار ؟ هذا- في رأيي- هو السؤال الأخطر على الإطلاق منذ إنشاء الدولة الوطنية الحديثة ؟ تأسيسا على ما تقدم نستطيع تحليل مشهد الانقسام المجتمعي على النحو التالي : بما أن الكيان الإنساني كل متماسك ويقوم على قواعد وأسس نفسية واجتماعية وعقائدية تشبه البناء المعماري، ومن ثم فإن قواعد وقيم الإنسان تمثل لكيانه وتوازنه النفسي تماما مثل الأعمدة الخرسانية التي تعد شبكة حماية للمنشأة من عوامل الانهيار والتصدع عند مواجهة الظواهر الطبيعية من زلازل وبراكين وتوابعهما، وهكذا عندما تتعرض قواعد المرجعية الإنسانية أو المنظومة القيمية الأساسية لهزات مجتمعية عنيفة يحدث للمرء زلزال وارتدادات نفسية تجعله في حالة توتر وضعف إنساني، وهنا تختلف معايير الدفاع لمواجهة التصدع حسب التكوين النفسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للأفراد والمجتمعات والشعوب. وإذا كانت منظومة القيم تشكل شبكة الحماية للكيان الإنساني، فإن المنظومتان اللتان تشكلان الأعمدة الرئيسية للكيان الإنساني وتحدثان قدرا هائلا من التوازن النفسي هما: منظومة القيم الدينية المطلقة باعتبارها قيم دفاع ميتافريقية، ومنظومة قيم المواطنة والتمسك بالأرض باعتبارها قيم تجذرية تشبثية تعتمد على أن أصل الإنسان خلق من طين، فماذا حدث لهاتين المنظومتين خلال الفترة الزمنية السابقة ؟ هل استقرت المنظومتان وبقيتا على حالتهما في تأمين حق الدفاع والتوازن أم أصابهما ضرر وتلف جسيم ؟ وما علاقة قضية جزر تيران وصنافير بقضية الثقة أو انعدام الثقة في رئيس الدولة والمؤسسات التابعة له سواء أصاب أو أخطأ ؟ وما دور مؤسسة الحكم المتعاقبة في عملية الاضطراب النفسي والقيمي التي أصابت المجتمع ؟ في تصوري أن المنطقة العربية ومصر ليست استثناء تمر منذ قترة زمنية بأزمة حضارية عصيبة نتيجة متغيرات محلية وإقليمية ودولية عديدة، وكان من تداعياتها ارهاصات 25 يناير والتحولات الإقليمية بدواعي العولمة وذوبان الحدود الجغرافية تحت حصار شبكات الاتصال الكونية الهائلة ومطارق المعرفة من جهة، ومن جهة ثانية نتيجة لمضاعفات ضعف المدخول الاقتصادي وتفاقم أزمة البطالة بسبب فشل نظم الحكم- الفقيرة فكريا- في التنمية وتوزيع الثروة وسيطرة مافيا الفساد على مدخلات ومخرجات العملية السياسية والاقتصادية والثقافية. فقبل يناير- ببضع سنوات- تعرت المؤسسة الدينية الرسمية أمام جمهورها العاطفي بخطابها المتهافت والمنعزل عن واقعهم القاسي والتحاقها بالسلطة السياسية المترهلة والعاجزة عجزا كليا، واستطاعت المؤسسات الدينية الموازية- في تلك الفترة- شغل الفراغ العاطفي الديني من الناحية الشكلية متمثلا في انتشار ظواهر الحجاب والنقاب والجلباب وغيرها من المظاهر الهوس البديلة مثل نغمات الموبايل (الآذان- القرآن-الأغاني الدينية- والأحاديث النبوية ) وعبارات التحية والشعارات، واستطاعت تلك الجماعات الموازية أيضا جسر الهوة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن انسحاب الدولة من منظومة الدعم الاقتصادي والتشغيل في قطاعات أهلية وخدمية في شعب يعاني من الأمية وشبه الأمية التعليمية وانحسار منظومة الرعاية الصحية. ومع النجاح الأولي لثورة 25 يناير منح الشعب ثقته للتيار الديني كقوة موازية للمؤسسة الدينية الرسمية لأنها سدت مسدها وأدت وظائفها لوقت طويل، وقد أشبع هذا التوجه لدي غالبية الشعب المصري حالة التعطش للمشاعر والقيم الدينية والأخلاقية وأحلام القظة، ولكن ممارسة الجماعات الدينية للسلطة بعد يناير وفشلها أو إفشالها في إدارة شؤون البلاد سواء بسبب جهلها بفنون الإدارة أو بسبب طمعها وجشعها وانحيازها الانتقائي للعشيرة بالإضافة إلى المصاعب الجمة الكامنة في دواليب العمل البيروقراطي في مؤسسات الدولة المترهلة، كل هذا أدي في النهاية إلى انهيار الثقة وتقهقر الرهان الشعبي على تثبيت قواعد المنظومة الدينية الأخلاقية، ومع ممارسة تلك السلطة الجديدة شبه الدينية للعنف اللفظي عبر شاشات الفضائيات ثم العنف المادي الصريح الذي عبرت عنه عمليات إرهابية تصدعت منظومة القيم الدينية لدى عامة الشعب واهتز الوجدان الإنساني وتزلزل الكيان الجمعي بشدة وأمكن رصد تلك الهزات العنيفة في عملية التحريض والسب والقذف والتشهير الذي مارسته الجماعات الحاكمة عبر منصات رابعة والاستاد وحصار المحكمة الدستورية العليا ويوميات الردح المفتوح على أسوار الاتحادية، وقد نافستها مؤسسات حكم 30 يونيو ومنظومته الإعلامية ولم تتعفف عنه المؤسسة الدينية الرسمية كوزارة الأوقاف نموذجا، ولن نبذل جهدا كبيرا لاسترجاع مشهد منصات الإعلام في القنوات الخاصة التي شوهت القيم الدينية والأخلاقية والأعراف والتقاليد المصرية العريقة وبهذا سقط الركن الركين بطعن منظومة القيم الدينية والأخقية النبيلة في مقتل. ومع الثقة التي منحها الشعب للرئيس عبد الفتاح السيسي في أعقاب الخطاب العاطفي المتوهج وطلب التفويض الذي كان يضغط بشدة على قيم الرحمة والانتماء الوطني وتحقيق الأمن تمكن نظام 30 يونيو من تعويض غريزة العاطفة الدينية وسد الفراغ وعلاج الخلخلة التي نشأت عن تصدع منظومة القيم الدينية والأخلاقية، لتتصدر قيم الهوس الوطني الخطاب السياسي والإعلامي ويشتد النفير على المخالفين للسلطة في الرأي مرة بالتخوين، وأخرى بالعمالة وثالثة بالتمويل الأجنبي والسير على خط المؤامرة الدولية لإسقاط الدولة وحروب الجيل الرابع والخامس وما يسمى بجماعات الشر حتى تحول معظم شركاء 30 يونيو إلى أعدقاء... وفجأة يصطدم المجتمع المستسلم- في معظمه- لشعارات الهوس الوطني وحماية التراب الوطني بسقوط الأقنعة وإعلان الحكومة المصرية على لسان المتحدث باسمها عن أحقية دولة مجاورة ( المملكة العربية السعودية) في جزء من تراب الوطن ( جزيرتا تيران وصنافير ) رغم أنه قد استقر في الوعي الوطني طوال سنوات الدراسة والحروب التي خاضها الشعب دفاعا عن تراب الوطن أنهما ملكية خالصة للدولة المصرية، ونزل الخبر على الشعب المصري كالصاعقة، فانقسم الشعب في مواجهة الصدمة إلى فرق وشيع: فريق المولاة للرئيس وفريق كارهي النظام والرئيس بسبب خصومات سابقة أو لاحقة، وفريق ثالث معارض لسياسات الرئيس استشعر الخطر بقرون استشعار حساسة من وجهة نظره. وانقسم فريق المولاة من داخلة إلى فريقين : أحدهما يتبنى النسق الثقافي للسطة فيما يعرف بنظرية الشيخ والمريد أو المحب والمحبوب ويمثله ذلك الشخص الذي تحدث عبر إحدى الفضائيات قائلا " إذا قال لي السيسي أن أبوك ليس أبوك فسوف أصدق الرئيس وأشك في أبي، وأما الفريق الثاني بلغ رشده فلم يجد بدا من احترام عقله وتحكيم المنطق والدلائل الراجحة في قراءة قضية الجزيرتين من منظور وطني خالص، وهذا الفريق يدعمه فعليا الفريق المعارض لسياسة الرئيس من خلال نقد سياساته التي تستحق النقد، ويحاول فريق الكارهين والمتضررين من السياسات الأمنية الانضمام والالتحاق بالفريق الثاني الذي استقر في وعيه قدسية تراب الوطن وظل متمسكا بعقيدته، وهذا الفريق سيزداد إيمانا بقضيته كلما تعنتت السلطة في التعامل معه وفشلت في إقناعة بحججها، أما الفريق الذي يعيش لحظة الهيام والتماهي بين المحب والمحبوب فيرى أن ما رأه المحبوب ( الرئيس )هو الصواب المطلق- ليس عن عقيدة راسخة أو فهم ووعي- واقتناع، بل تحت تأثير عاملين أحدهما فجأة الصدمة النفسية وتبعاتها والعامل الثاني المنفعة الشخصية. وترى الشريحة الأولى من هذا الفريق أن هذا هو السبيل الوحيد لحماية نفسها من الانهيار المعنوي، وتحصين ما بقي لها من ركام البنيان النفسي والعقائدي؛ لأن التسليم بأدلة وحجج الفريق الآخر المؤمن بمصرية الجزيرتين سيؤدي- بالضرورة- إلى انهيار صورة المحبوب الذي جعلوه فوق كل الاعتبارات حتى لو كانت التضحية بالانتماء للأرض والتشبث بجاذبية فكرة الوطنية كضريبة موقف الضرورة، لأن سقوط منظومة الانتماء للتراب الوطني تعني- بالنسبة لهؤلاء سقوط الركن الثاني من الكيان الإنساني المعرض لانهيار مرجعياته الرئيسة الحاكمة، مرجعية الدفاع ومرجعية التوازن النفسي، وهذا ما نحذر من تداعياته في المستقبل القريب والبعيد، فإذا لم يتدارك النظام خطورة ما أقدم عليه، ويعمل على استعادة فريق المولاة الذي دعمه في 30 يونيو بالتراجع واحترام الدستور والقانون ويتصالح مع نفسه ويعبر عن انحيازاته للوطن والمستقبل والعدال فسيخسر كل شيء، فلا يلومن إلا نفسه. سؤال : ماذا يبقى من الثقة بعد تنازل المحامي لخصمه عن حقوق موكله !!!.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.