كان هذا في مطلع مارس من عام 2007، بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي تَمَّ التوافق عليها في أعقاب التوقيع على اتفاق مكة بين حركتَي حماس وفتح. نائب رئيس الوزراء ووزير التربية والتعليم العالِي في الحكومة– في ذلك الوقت- ناصر الشاعر عرض على جامعة النجاح الوطنية بنابلس، اقتراحًا بمنح رئيس السلطة محمود عباس شهادة دكتوراه فخرية، قبلت الجامعة بترحيب الاقتراح وتَمَّ تحديد الموعد، وفي صباح اليوم الذي كان من المقرَّر أن يتم فيه تنظيم احتفال منح الدكتوراه لعباس، توجَّه الأخير من رام الله برفقة الشاعر الذي كان يجلس إلى جانبه في السيارة الرئاسية التي كانت مُتَّجهة صوب نابلس، لكن عند حاجز "حوارة" العسكري، الذي يقع جنوب نابلس، استوقف جنود الاحتلال الذين كانوا يتواجدون على الحاجز السيارة وأخذوا يدققون في الوثائق الثبوتية لكل من أبو مازن ومن معه في الموكب، فأذن أحد الجنود لكل من كان في الموكب بمواصلة المسير، باستثناء الشاعر، الذي طلب منه النزول والرجوع من حيث أتَى، كونه ينتمِي لحركة حماس. المفارقة التي تشِي بالكثير من الدلائل، أنَّ عباس لم يتردد ولم يتلعثم بتاتًا، حيث طلب من الموكب مواصلة المسير، بينما وقف الشاعر على جانب الطريق للعثور على سيارة تقلّه قافلاً إلى رام الله، لا حاجة للقول إن أبسط ردة الفعل طبيعية كان يتوجب على عباس القيام بها، كمن يقدم نفسه كزعيم وقائد، أن يتضامن مع وزيره في مواجهة غطرسة الاحتلال، لاسيما وأنَّ الشاعر هو الذي بادر لاقتراح منح الدكتوراه الفخرية لعباس، ويرفض مواصلة المسير ويعود من حيث أتَى. استذكار هذه الحادثة، تحديدًا، يحمل دلالةً واضحةً هذه الأيام في أعقاب الضجّة التي أثارها قرار الإدارة المدنية في الجيش الإسرائيلي تقييد مدّة سريان البطاقة التي يسمح بموجبها الجيش الإسرائيلي لعباس وكبار قادة أجهزته الأمنية والحكومية بحرية الحركة في الضفة الغربية داخل إسرائيل، والتي يطلق عليها بطاقات (VIP ). وعلى الرغم من إعلان الجيش الإسرائيلي تراجعه عن تقييد مدة سريان هذه البطاقات، إلا أنَّ هذه الضجة أتت في أعقاب قرار عباس المفاجئ باستئناف المفاوضات مع إسرائيل على الرغم من تشديدها على مواصلة الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية والقدس، وإصرارها على طرح مواقفها التعجيزية المتعلقة برفض حقّ العودة للاجئين ورفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة والتشديد على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، علاوة على رفض اعتبار قرارات الشرعية الدولية مرجعية للمفاوضات. ومن الأهمية بمكان هنا عرض تفسير الصحفية الإسرائيلية عميرة هاس للعلاقة بين الامتيازات الشخصية التي تمنحها إسرائيل لعباس وكبار قادة أجهزته الأمنية وبين موافقة عباس، ليس فقط على استئناف المفاوضات، بل توفيره المظلة لتطوير التعاون الأمني مع الأجهزة الأمنية للاحتلال، رغم السلوك العدواني الإسرائيلي وفي ظلّ تغوّل المستوطنين، وفي مقال نشرته على النسخة العبرية لموقع صحيفة "هآرتس" الخميس الماضي، فضحت هاس عباس وأركان سلطته، قائلة إنَّ هدف إسرائيل من منحه وقادة أجهزته الأمنية الامتيازات هو ليس فقط أن يغضّ الطرف عن ممارسات الاحتلال، بل أن يصبح جزءًا من آلة القمع الممارسة ضد شعبه الواقع تحت الاحتلال، إنّ الكثير من المعلقين الصهاينة باتوا يستهجنون أن تقبل قيادة السلطة أن يتم التعامل معها على هذا النحو المهين والمذل. ولقد تساءل الكثير من الكتاب والمحللين الصهاينة عن السبب وراء عدم مسارعة هذه القيادة إلى التخلِّي عن هذه المكانة التي تمنحها لها إسرائيل، وهي مكانة لا تشرِّف أحدًا، وعلى وجه الخصوص مَن يزعم تمثيله لشعبه، وهم لا يرون أي مسوِّغ منطقي وموضوعي يجعل عباس مضطرًا للحصول على مثل هذه التصاريح. لقد بات في حكم المؤكد أنه بعد 17 عامًا من تجربة السلطة أنّ الامتيازات الخاصة التي تحصل عليها القيادة من الاحتلال هي جزء لا يتجزأ من منظومة القمع التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، حيث يمكن للمرء أن يتخيل مسئولاً كبيرًا في السلطة هو يحاول جاهدًا إقناع موظف بسيط في إحدى دوائر الإدارة المدنية الإسرائيلية بأن يعيد له مكانته الخاصة التي تتيح له حرية الحركة. فمن الطبيعي أن يغضّ هذا المسئول الطرف عن أي سلوك عدائي تقوم به إسرائيل ضد أبناء شعبه، ليس هذا فحسب، بل إنه سيتعاون مع الاحتلال في ضرب شعبه، لذا فإنّ سلوك السلطة الفلسطينية هو من وفّر الأرضية لتمكين إسرائيل من إهانة قياداتها وكبار مسؤوليها. ويشير بعض المراقبين الصهاينة إلى بعض مظاهر النفاق الذي يعكسه سلوك قادة السلطة الفلسطينية، حيث إنهم يشيرون إلى أنّ قادة السلطة يدعون إلى المقاومة الشعبية كخيار في مواجهة الاحتلال من ناحية، لكنهم – من ناحية ثانية - يرفضون بكل إصرار تجريب خيار العصيان المدني ضد الاحتلال، وذلك للحفاظ على امتيازاتهم. وقد أكد تقرير نشرته صحيفة " هآرتس " أن قيادة السلطة تتعاون مع سلطات الاحتلال في تهويد الضفة الغربية من خلال عدم الاستثمار في تطوير مناطق الضفة الغربية التي تَم تصنيفها على أنها مناطق "ج"، وهي تشكل حوالي 62% من مساحة الضفة الغربية، على الرغم من وجود الكثير من البلدات والقرى الفلسطينية في هذه المنطقة. وحتى الاتحاد الأوروبي "يتهم السلطة صراحة بتجاهل هذه المناطق وتركها لكي تنفرد بها إسرائيل، ونقلت هآرتس عن دبلوماسي أوروبي قوله لها: "السلطة الفلسطينية تطلب منا مساعدات ومنحًا مالية لبناء أبنية فخمة في رام الله، وتتجاهل في الوقت ذاته البناء في المناطق ج "؛ وذلك لأنها غير معنية بالمسّ بميزان القوى الذي تفرضه إسرائيل في الضفة الغربية. المصدر: الإسلام اليوم