في يومين متتالين رحل علمان مصريان بارزان: بطرس غالي، ومحمد حسنين هيكل، مع حفظ الألقاب لكل منهما، فقد بلغا درجة مرموقة في عملهما خلال حياتهما الطويلة والحافلة لم يصل إليها أحد آخر في مصر أو بلاد العرب. غالي اختير لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، وهو أرفع منصب دولي يمكن أن يبلغه شخص، علاوة على أنه تقلد الوزارة في مصر، ومسؤوليات أخرى عديدة لتجعل منه قانونيا وسياسيا ودبلوماسيا مميزا صاحب تاريخ عريض. وهيكل بلغ درجة رفيعة كصحفي وكاتب ومحلل سياسي لم يصل إليها غيره في الشهرة والذيوع والاقتدار من العاملين بمهنة الصحافة والكتابة ليس في مصر وحدها إنما في العالم العربي كله، وربما كان هو الاسم العربي الوحيد المعروف دوليا في هذا المجال. تختلف أو تتفق مع أحدهما أو كليهما لكنهما من أركان السياسة والدبلوماسية والصحافة والفكر والثقافة في مصر، وهما كانا جزء مهما من رصيد القوة الناعمة لمصر التي تشكل أحد أسرار ريادتها وتفوقها عربيا وحفر اسمها عالميا، فليس كل بلد في المنطقة كان لديه بطرس غالي أو هيكل، ومصر نفسها لم تستطع حتى اليوم أن تدفع بواحد من أبنائها في منصب دولي رفيع بعد غالي، فقد فشلت محاولة الدفع بوزير الثقافة الأسبق فاروق حسني ليكون أمينا عاما لمنظمة اليونسكو، وكان ذلك دليل على دخول نظام مبارك مرحلة العجز، وإشارة على أن تأثير مصر الخارجي يتآكل، فقد فازت مرشحة مجرية غير معروفة مقارنة بفاروق حسني، وربما أقل منه خبرة واسما ثقافيا وفنيا. مشكلة مصر كانت في الخمسية الأخيرة من عهد مبارك أن النظام قد شاخ وصار غير قادر على الإصلاح وتقديم مبادرات مدهشة للمجتمع الدولي تؤكد حيويته ورغبته في الالتحاق بركب التطور الاقتصادي والديمقراطي العالمي، لأن مبارك قدم أقصى ما لديه، وكان إنتاجا محدودا لا يليق بما يجب أن تكون عليه دولة قديمة وعريقة، والنظام صار فرديا جدا يحوم حول شخصين اثنين فقط هما مبارك ونجله جمال الطامح لوراثة أبيه في الحكم، وتم توظيف أجهزة الدولة لتعمل في خدمة التوريث، ولم يكن النظام الضيق مشغولا بالتدهور الحاصل في مفاصل الدولة وفي الجمود الذي يسيطر عليها، وقد انتهى الأمر بسقوط مبارك الأب والابن في ثورة 25 يناير، لكن الدولة لم تُوضع بعد على الطريق السليم. الذين يرحلون لا يتم تعويضهم، ماذا جرى للعقل المصري؟، كل النخب التي برزت في أزمان سابقة تفنى تدريجيا، وهذه طبيعة الحياة، لكن لا تظهر عقول أكثر نبوغا أو تفوقا، أو حتى مساوية لها، ليس هناك مثلا أديب مثل نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ويوسف إدريس وغيرهم، وليس هناك فنانون مثل سعاد حسني وفاتن حمامة وعمر الشريف وأم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب، وليس هناك صحفيون وكتاب مثل محمد التابعي وهيكل ومصطفى وعلي أمين وأحمد بهاء الدين وجلال الدين الحمامصي، وليس هناك دبلوماسيون مثل محمد صلاح الدين ومحمود فوزي وعبدالخالق حسونة وبطرس غالي، وعمرو موسى أطال الله في عمره، وليس هناك برلمانيون مثل ممتاز نصار ومحمود القاضي وعلوي حافظ وأحمد طه والشيخ صلاح أبو إسماعيل، وحتى كمال الشاذلي، وليس هناك رؤساء أحزاب مثل إبراهيم شكري وفؤاد سراج الدين ومصطفى مراد وخالد محيي الدين، وليس هناك قيم وأخلاق مقارنة بما هو حادث اليوم من تفلت وتفتت وانهيار لمنظومة القيم وشيوع سلوك التطاول والبذاءة في تعامل مختلف الفئات من قاع المجتمع إلى قمته، مصر تتراجع، ولا تقدم صورتها الحقيقية، ما هو ظاهر على السطح لا يعكس حقيقتها، ولا عمقها، ولا نبوغها، وعندما نقول الزمن الجميل، فلأن جماله يظهر من ضده وهو القبح وشيوع المساوئ. من هى الرموز في مصر اليوم؟، الحديث في هذه النقطة سيكون مثيرا للألم والشفقة على حالة التدهور التي ننحدر إليها وتجعل مصر تفقد ما كان لها من بروز وذيوع وزخم وقوة وتأثير ونفوذ ودور ومكانة وريادة وقيمة، على المستوى الداخلي هناك أزمة بين أبناء الوطن الواحد، لا تجد اثنين يختلفان بعقل واحترام بل هما مستعدان للاشتباك ببذيء الكلام وبما هو أشد من اتهامات التخوين، وخارجيا لا تجد مسحة من زمن قديم عندما كان الجميع يحج إلى مصر وينتظر كلمتها، متى تعود مصر إلى نفسها وحقيقتها؟. إذا كان يصعب تعويض بطرس غالي، أو هيكل، أو غيرهم من الراحلين البارزين، لكن هذا ليس مستحيلا طالما هناك حياة، وتوالد أجيال جديدة، ومصر قدمت جيلا من شبابها الذي فجر أحد أعظم أحداثها وهو ثورة يناير، وهذا يمنح الأمل في أنه مهما كان الحاضر مؤلما إلا أن المستقبل سيكون أفضل. التاريخ لابد أن يقول يوما كلمته في الراحلين لكن بعد مرور سنوات ومجيء جيل جديد يكون متحررا من الوقوع تحت تأثيرهم والانبهار بهم ليمارس التقييم الموضوعي لهم ولمسيرتهم في قضايا كبرى على رأسها الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة والعدالة الاجتماعية، والدولة الحديثة الناهضة على قيم العدل والقانون، وهل العمل ضمن السلطة أو بالقرب منها خدم تلك القضايا أم تجاهلها، أم عضّد ودعّم السلطوية السياسية؟. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.