الهواء ثقيل ، والحياة صارت مضجرة ، وكل صباح أشد وطئا من سابقه ، وغدا اقلب الفكر فيه فلا أجد فيه بمقاييس البشر إلا خطرا داهما يلوح . جيش وشرطة أصبحا طرفا أصيلا في خلاف سياسي مما أضر بهما أكثر من أي وقت مضي ، وقضاء تعرضت أحكامه للغط وإهانات دولية ومحلية متعددة ، ونيابة عامة تأثرت سمعتها كثيرا ، وإعلام انحرف جله عن رسالته السامية المشرقة ، فشق الصف وكاد يهدم البنيان ، وروج للسب والشتم واللعن ، وشعب وشعب يرفعان أكف الضراعة إلي السماء ليستنزل كلا منهما من [ ربه ] أشد اللعنات علي الاخر وتفجير هنا وعبوات ناسفة هناك ، وهجوم هنا وجنون هناك . وبغي داعية ، وداعية بغي . وسياسيون قادة وما هم بقادة ، ومثقفون ومدعون ، ابتلعت الجميع إلا من عصم ربك الأنانية والأثرة ، وحب الذات وشهوة الكلام ، وفجارة الخصومة ، وجنون العظمة ، ووهم الخلود . واقتصاد يتداعي ،وأمة تتسول وسحابة سوداء من الكذب والتدني والتضليل والافتراء والسب والشتم واللعن . كل ذلك مؤلم ، ولكن أشده جرحا وإيلاما هو الخوف من ضياع ثقة الأمة في القضاء والقضاة ، لأنه لا حياة لبشر دون قضاء ، وهذا حال القضاء والنيابة العامة الذي لا يخفي علي أحد .. ومما يزيد الألم ألما والمصاب فداحة أن هذا لم يكن حال القضاء عند تشرفي بالانتساب إليه عام 1980 . في مفارقة محيرة أن يكون الحال بعد كل نلك السنوات ، بدلا من أن يكون وفقا للطبيعي وسنن الحياة أفضل وأحسن وأوفر عدلا واحتراما للإنسان وحقوقه . ولهذا أسبابه الكثيرة التي ليس هنا مقام بسطها .
فالقضاء الفاسد ، والقضاء الظالم , وقضاء الزند .عبارات شاع استخدامها مؤخرا دون تبصر بأثرها المدمر ، وبكثير من التعميم والتضخيم .علي الألسنة والجدران ، وممن يعارض وممن يؤيد ما جري في 30 /6/2013 وما تلاه من أحداث ، وسري ذلك في أوساط العامة والمثقفين ، بل شاع في الأوساط الدولية . أنها عبارات عجولة ظالمة غالبا تعبر عن حنق وضيق أغلق باب العقل ، فحال دونه والتروي والتفكر السليم ، ومن ثم السداد والعدل في الحكم علي الأمور نزولا علي قوله تعالي { ولا يجرمنكم شنآن قوم علي الا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }
فليس صحيحا ولا منصفا إطلاق الوصف علي القضاء بالفساد أو الصلاح والظلم أو العدل وغيره من الأوصاف . لمجرد الرضا أوعدم الرضا علي الأحكام القضائية ، أو لمجرد شذوذ بعضها ، وتفلتها من تخوم القانون وكل معاني العدل ، وسقوطها في حومة القصور والفساد والإخلال بحق الدفاع ، وكل عيوب تسبيب الأحكام ، أو لمجرد تحقيق هذه الأحكام أو عدم تحقيقها لمآرب سياسية أو استدعاء مظالم دنشواي ، ونسيان عدل وعدالة ومفاخر الأمس القريب ، أو استغلال ذلك كله للتعريض بأعراض القضاة ( إذ تلقونه بألسنتكم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم )
فلا يجب أن يغيب عن البال أن أحكام القضاء بطبيعتها تكون في الأغلب الأعم منها موضع رضا وسخط . فهذا كاسب للدعوى فهو راض مشيد بالعدل ، وذاك خاسر ساخط يظن وبعض الظن أثم أن بالحكم ظلم ، وهذا مجني عليه [ أو عائلته ] راض بعقاب المتهم وان لم يرض أحيانا بمقدار العقوبة وذاك متهم يدعي البراءة ويشتكي الحيف .أو العكس هذا مجني عليه يحس بمرارة الظلم للحكم علي من اعتدي عليه بالبراءة ، والمتهم سعيد يلهج بالثناء علي العدل . والقاضي بشر ، وأمامه أوراق ، ولم يكن حاضرا ولا شاهدا للوقائع التي تعرض عليه ... وهكذا .
نعم هناك أحكام صادمة ظالمة لا ينكر ذلك إلا أحمق مكابر ، ولا يختلف علي ظلمها وفسادها الا من في قلبه مرض . ومن ذلك أي حكم يصدر دون تحقيق معايير العدالة الجنائية ، ومقومات المحاكمة المنصفة . أو يلج في السياسة وهو غير مختص ، أو يقضي بميل وهوي علي خلاف ثوابت الأمة ولمصلحة أعدائها .
لكن مما زاد الجرح جرحا والطين بله الحديث الأخير لوزير العدل أحمد الزند . الذي كشف عن أنه ما زال يعيش في جلباب نادي القضاة . وتتحكم فيه بالرغم من السنوات السبعين التي يحملها علي كتفيه ، نوازع العاطفة لا العقل ، ويقوده بالرغم من جلال منصبه هوي الضغائن ، لا شرف الخصومة وعدالة الحقائق . بما أضر ضررا بليغا بالوطن والدولة ، وبالعدل والعدالة . ليراكم ما هي فيه من ضرر محدق وخطر جسيم . حتي أن الخشية باتت مرجحة في أن أي نقمة قادمة ستكون علي القضاء .
فقد أضر حديثه بالوطن والدولة ، وبالقضاء والقضاة ، وهو يتحدث بأسلوب الخصم والعدو ،عن الانتقام بالقتل المجمع بالمائة ألف والأربعمائة ألف ، وشفاء وإطفاء نار القلوب . حائدا عن أسلوب السياسي المطلع المثقف الواعي بحركة التاريخ ماض وحاضر ومستقبل ، المدرك لمرامي القول ومواقعه . ومجانبا حتي لأسلوب القاضي وإن لم يعد قاضيا الرصين الهادئ الذي يبني أحكامه علي العدل والحق والجزم واليقين لا الظن والاحتمال . ومضادا حتي لكتاب الله تعالي الا تزر وازرة وزر اخري ، وضاربا بالدستور عرض الحائط الذي نص علي أن العقوبة شخصية . وأن المتهم برئ حتي تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع .
كما نال خوضه في تنفيذ أحكام بالاعدام قبل أن تصير باتة ، من مبدأ استقلال القضاء . فمن أدراه أن الأحكام ستكون بالإعدام أصلا ، ومن أعلمه أنها لن تصدر بالبراءة أو بغير الإعدام ، وهل هذا وذاك الإ تدخلا سافرا في شئون القضاء ، لا يسمح به ولا يجب أن يكون في دولة المؤسسات ، دولة القانون ، أو إدعاء القانون ، أو حتي شبه القانون ، ولا يسمح به ولا يجب أن يصدر من عضو في السلطة التنفيذية ، يحترم القضاء والقضاة ، ويحترم قبل ذلك كله جلال منصبه ،ومسئولية الحكومة السياسية عن تصريحاته ، ولا أعتقد انه يسمح بذلك التدخل مجلس القضاء الأعلي ولا القضاة الشرفاء وهم كثر
وعضد ذلك التدخل ، توعده لصاحبي فيديو الواقي الذكري بأشد العقاب . فكيف وهو عضو السلطة التنفيذية قرر أنهما سينالان أشد العقاب !! ولا سبيل له إلي ذلك إلا بالحديث مع القاضي الذي سيحكم في القضيه المتهمين فيها . أو إلي رئيس المحكمة الابتدائية التابع لها ... وهل حينها يمكن أن يكون هناك ثمة حديث عن استقلال وسيادة القضاء .
ولن أعرج علي بشاعة وافتراء الاتهام للسيد الأستاذ المستشار أحمد سليمان وزير العدل الأسبق . ولن أذكر بجلال منصب وزير العدل في سمته الراقي ، وهو ينزلق في مجارير الحقد والكراهية . ولن ، ولن ......... الخ
ولكني لا بد وحتما أن أتناول وأندد بالافتراء علي تيار الاستقلال ووصفه كذبا بأنه الوجه الكئيب لجماعة الإخوان بالقضاء المصري . خاصة أنه طالما ردد ذلك أبان رئاسته لنادي القضاة ، وتوعد بعزل قضاة ذلك التيار بأسرع وقت . بما ألقي بظلال كثيفة علي وقائع المحاكمات التي تجري مع بعضهم .
أفهم أن نختلف مع الاّخرين ، ولكن لا أفهم ان نختلق عليهم ، اتقبل الهجوم والنقد ، لكن لا أتقبل الكذب والأفك .
فليس صحيحا ان تيار الأستقلال هو وجه لجماعة الأخوان داخل القضاء ، فضلا عن أن يكون هو الوجه الكئيب . وليس صحيحا أصلا أن أردنا الموضوعية والتاريخ أن هناك تيارا في القضاء اسمه تيار الاستقلال . فهذه تسمية اعلامية ، أطلقها الإعلام علي { النشطاء من القضاة } في الدفاع عن استقلال وسيادة القضاء اّبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك . والذين كان يؤيدهم الأكثرية الساحقة من القضاة .
والأغلب الأعم من رجال القضاء المصري إن صح التعبير من تيار الاستقلال ، فقلما تجد إلا قليلا رجل قضاء يسمح بتدخل السلطة التنفيذية أو غيرها في شئون عمله ، وما هذا إلا تمسكا باستقلال وسيادة القضاء . حقا إن ذلك الالتزام تتفاوت درجاته بين أشخاص رجال النيابة والقضاء ، فهو التزام غير صارم لدي الجميع بنفس النسبة ، وغير ثابت في جميع العهود . لأن الكل بشر ، والكل خطاء ، ولكل مقدرته علي المجابهة والمقاومة ، ولكنه يقينا هوالالتزام السائد . مع التذكير بما قيل حقا من أن الوسام لا يصنع قاضيا ، إن لم يكن بين جنبيه نفس القاضي وعزة القاضي وكرامة القاضي ، وأن هذه الحصانة الذاتية وهذه العصمة النفسية هي دعامات الاستقلال الحقيقي للقضاء .
وفي العهد الذي كان فيه تيار الاستقلال متوليا شئون نادي القضاة ، وصفه أحد تقاريرمركز الدراسات الأستراتيجية للاهرام بأنه أحد الضمائر الحية المعبرة عن الجماعة المصرية .
فإذا أعتبر وزير العدل كل هؤلاء اخوان مسلمون ، فتلك فرية يعلمها القاصي والداني ، والصديق وذو الأحن . فأين يأيها القاضي السابق ، وياوزير العدل الحالي أدلتك وبيناتك علي ما قذفت واتهمت ؟ وهل أنت كبشر تملك الحقيقة ، وتحيط بالكل ، وتطلع الغيب ، وتعلم ما في الصدور ، حتي توزع التهم وتنثر وجوه الكاّبة والإشراق ؟ وهل هذا مسلك يليف بمنصبك الحالي والسابق ، أو حتي يليق بمن في مثل عمرك .
والمشكلة في حديثك ، ليست في نسبة هؤلاء القضاة إلي جماعة الإخوان المسلمين ، ولكن المشكلة تكمن في اتهامهم بالإرهاب تبعا لما نسب إلي تلك الجماعة .
والقضاة الذين عناهم الوزيرقضاة لم يعرف عنهم إلا الانحياز للحق والعدل ، ولم يقل أحد أبدا أنهم مارسوا السياسة أو انحازوا لحزب أو جماعة او طائفة . او أنهم ارهابيون ، وقد لبثوا وسط زملائهم سنين عددا وهم أخبر الناس بهم .
وإذا اردنا مزيدا من العدل والموضوعية والمروءة ، فإنه يجب القول بشجاعة المسلم وعدل القاضي شاء من شاء وأبي من أبي ، أن المرء يخلق حرا ، يصبح اخوانيا ، ماركسيا ، قوميا ، مؤمنا ، ملحدا ، مسلما ، مسيحيا ، يهوديا ، بهائيا ، بوذيا ، ....الخ فهذا شأنه ، ولا شأن لأحد به إلا إذا ارتكب جرما ، أو انتهك محرما ، ولا يؤخذ أبدا بجريرة غيره . فرب العزة يقول من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، والوزير وغيره يقول اقتلوهم حرقوهم أبيدوهم ، هكذا تعميما وإجمالا . بالمائة الف والأربعمائة الف أو يزيد . ووالله لم تكن هذه شريعة الغاب ، بل شرعة أتي بها وزير العدل . وتجار الإعلام ومدعو الثقافة ، وممن في قلوبهم مرض . ليدمروا بذلك وطنا يدعون حبه ، ومن الحب ما قتل !! وليحملوا أوزارا فوق أوزارهم . يوم تعنو الوجوه للحي القيوم . يوم يجدوا ما عملوا حاضرا ، أحصاه الله ونسوه .
والعدل الذي قيل فيه ما قيل وسيقال منذ الأزل وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها . حوله وزير العدل إلي انتقام . والخلف الذي بينه وبين قضاة من تيار الاستقلال حوله إلي خصومة ثأرية ، واتهامات بلا دليل ولا بينة . مستغلا في ذلك قيام بعض قضاة تيار الاستقلال وكاتب هذه السطورمنهم بإصدار بيان حول أحداث الثلاثين من يونيو وما تلاها من أحداث ، والذي سمي ببيان رابعة . لينسبهم إلي جماعة الإخوان المسلمين . مستفيدا من أجواء الخلف السياسي والشحن الطائفي وتوسنامي الكراهية .. عسي ان ينال بذلك منهم ، ناسيا أنه لايفعل ولا يدع ، بل الله يفعل ما يريد .
ياوزيرالعدل صرت بحديثك حقا الوجه الكئيب للعدالة ، فهون علي نفسك ، ولا تفرح بالأيام ، وأقم العدل في نفسك ، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب ، وزن أعمالك قبل أن توزن عليك .وتالله سيحدث وتراه بعيدا وأراه قريبا مهما طال بك العمر ، وتذكر قول الشاعر : وإنا لنفرح بالأيام نقطعها * وكل يوم يدني من الأجل
وقد مضت ساعة من عمري وأنا أخط هذه الأسطر , وحتما مضت من عمرك .
المستشار/ محمود محمد محيي الدين * نائب رئيس محكمة النقض المحال إلي المعاش بحكم ابتدائي