ما حدث بين بعض القضاة ممن يجلسون على منصة القضاء، جعل البسطاء من المواطنين يساورهم الشك فيما رسخ فى وجدانهم عن القضاء ورجاله، فالاتهامات المتبادلة بين رجال القضاء زادت حدتها فى الأيام الأخيرة، وهو ما خلق حالة من الفوضى أوصلتنا فى النهاية إلى سب القضاة، والتشكيك فيهم، من قبل المواطن العادى، ومن قبل القضاة أنفسهم، فإذا كان الناس يعتبرون كلمة القاضى حُكما ويحترمونها ويثقون فيها، بينما الاشتغال بالسياسة والظهور فى وسائل الإعلام يعطى الحق للمعارض أن يخالف القاضى فى الرأى، بل ويرميه بالجهل، ويخطئ أحكامه، وهنا فقط تضيع هيبة القاضى، وتهتز قدسية القضاء، وتضيع الثقة فى الأحكام، . وإذا كانت الغالبية العظمى من القضاة يؤكدون أنه لا يجوز للقاضى ممارسة العمل السياسى، أو الانتماء لأحد التيارات السياسية، أو الدعوة للمفاضلة بين تيار سياسى وآخر، فهذا الأمور تعد من المحظورات على القضاة حتى لا يكونوا رجال سياسة، إلا أن المشهد السائد الآن بين القضاة وهجومهم على بعضهم البعض يعد سندا رئيسيا للتدخل فى الشئون القضائية بحجة السياسة ليفقد القضاء استقلاله، ومن ثم تنهدم مؤسسات الدولة وأركانها. وهذا يجعلنا نتساءل هل نزول القضاة إلى الشارع، واشتغالهم بالعمل السياسى، وظهورهم على شاشات الفضائيات، وكذلك كثرة الخلافات بينهم، والتى وصلت إلى درجة «الخناقات» أضر بهيبة القضاء؟، وهل رجال القضاء فى حاجة إلى قاضٍ للفصل بينهم؟.
∎ سقوط القضاء
وفى هذا الشأن يؤكد الدكتور ثروت بدوى الفقيه الدستورى أن هيبة القضاء فى مصر زالت فى العهد السابق، وتحديدا منذ ثورة يوليو 2591 لأن القائمين على أمور البلاد لم يؤمنوا بسيادة القانون، واستمروا على ذلك حتى تفاقم الأمر فى عهد الرئيس الأسبق، مضيفا أن مبارك وأعوانه تفانوا فى عدم تنفيذ أحكام القضاء، وهو ما عجل بسقوط نظامه، مؤكداً أن الحاكم يحدد نهايته بتنكره لأحكام القضاء. وأشار بدوى إلى واقعة تعرض لها فى عام 7891 عندما صدرت أحكام من مجلس الدولة ببطلان انتخابات بعض الدوائر بمجلس الشعب، وقال: «اجتمعت قيادات الحكومة والحزب الوطنى آنذاك فى مكتب رئيس مجلس الشعب لبحث هذا الأمر، وإيجاد مخرج لعدم تنفيذ تلك الأحكام، وعندما اعترضت وحدى على ما اتفقوا عليه من عدم تنفيذ الأحكام، اتصلت بالدكتور مصطفى الفقى مدير مكتب رئيس الجمهورية آنذاك لإبلاغ الرئيس باعتراضى فوعدنى بمكالمة بعد 01 دقائق، وبعدها رد قائلا: «الرئيس بيقولك حاول تقنعهم»، ورجعت للاجتماع، وفوجئت بالدكتور فتحى سرور يخاطبنى بقوله: «أنا لم أكن أتصور أنك تختلف مع المحجوب نظرا للصداقة التى بيننا، فقلت له صداقتى معه لا تمنعنى من الاختلاف معه فى الحق»، وتابع بدوى قائلاً: كان من الطبيعى أن يفقد القانون هيبته بما أن صناع القانون هم الذين يخرجون عليه ويخالفونه. وأضاف أن النظام السابق حاول القضاء على هيبة القانون بمحاولاته المستمرة للتدخل فى شئون القضاء، وجعل الكثير من قياداته موالين للسلطة التنفيذية، ومكتب الإرشاد أكثر من ولائهم للسلطة القضائية، التى يجب أن تتمتع بالحيدة والاستقلال والموضوعية، وبناء على تلك الأسباب اهتزت هيبة القضاء والقضاة لدى المواطن بالإضافة لأسباب أخرى منها إطالة أمد التقاضى إلى عشرات السنين.
∎ تسيس القضاء
ومن ناحية أخرى قال المستشار حسنى السلامونى، رئيس محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية ونائب رئيس مجلس الدولة: يتوجب علينا أولاً معرفة مدلول تسييس القضاء، بمعنى اشتغاله بالسياسة، وهذا ممنوع بتاتا على القضاة رغم أن من حق القاضى، باعتباره مواطنا قبل أن يكون قاضيا، اعتناق ما يشاء من أفكار ومعتقدات، لكن ممنوع على القاضى الإفصاح عن معتقداته السياسية بأى صورة من الصور، طالما ظل فى الخدمة، كما أنه محظور عليه أن ينعكس اعتقاده السياسى أو العقائدى على واجبات وظيفته، أما أن القاضى قد يؤثر، بما يصدره من أحكام، فى المجريات السياسية، فذلك لا مناص منه فى بعض الحالات، خاصة فى القضاء الإدارى والدستورى، فأحكام إبطال بعض القرارات الإدارية، ومنها قرارات جمهورية وأحكام عدم دستورية القوانين مثلا، تؤثر تأثيرا مباشرا فى المجال السياسى، حتى وإن لم يكن القاضى يملك ذلك أو يقصده، لكن الحادث فى مصر حاليا هو اتهام القضاة بالتسييس كلما صدر حكم لا يرضى عنه فصيل من الفصائل، وهذا محض افتراء واجتراء على القضاء لا أساس له فى الواقع. وأضاف المستشار السلامونى بالنسبة لسعى البعض إلى تسييس القضاء، فذلك ظاهر للعيان من دون أدنى شك، وقد تجلى فى تصرفات بعض القضاة الذين يجاهرون بتأييد فصيل معين، ولا يقوم هذا الفصيل بالاعتراض عليهم، أما إذا قام قاض آخر ممن لا يجاهرون بتأييد هذا الفصيل بالتصرف نفسه، فإنهم يتهمونه بأبشع التهم، وقد وقع بعض القضاة فى هذا الشرك، بأن آثروا السلامة وأعلنوا تأييدهم لهذا الفصيل أو ذاك، وهذه هى أولى خطوات تسييس القضاء. وقال السلامونى أيضا: إن الفساد أصاب القضاء الذى أصاب بدوره كل نواحى الحياة فى النظام السابق، بل إن منظومة القضاء كلها أصبحت فى حالة يرثى لها، ويجب إصلاحها فورا عن طريق القضاة أنفسهم، وقال: إن الأزمة بين السلطة القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية، ستنتهى عندما تعرف كل سلطة حدودها، وعندما يعرف الجميع أن القضاء هو المرجع النهائى للشرعية والمشروعية، مؤكداً أن هذا ليس تمييزا للسلطة القضائية عن باقى السلطات، ولكنه دورها الذى رسمه القانون، رغم أننى مقتنع حتى الآن على الأقل، بأن هناك من يسعى جاهدا لإسقاط السلطة القضائية وليس إصلاحها، ويتم العمل حثيثا لتحقيق هذا الهدف بكل الطرق، وقد بدا ذلك منذ قيام الثورة بحرق دور العدالة منذ 82 يناير، قبل أن يسقط النظام السابق، بعكس ما يروجون بين البسطاء من الناس من أننا نعارض القضاء لأنه برأ المتهمين بقتل الثوار، فهذا كذب؛ لأن المؤامرة بدأت قبل أن يقع شهيد واحد، وقبل محاكمة المتهمين بقتل الثوار، هذا إلى جانب أن هناك من يسعى إلى إسقاط السلطة القضائية باعتبار أن هذا القضاء غير شرعى، لأنه، كما يقولون لا يحكم بما أنزل الله، ومما لا شك فيه أن هدف إصلاح القضاء والمنظومة القضائية والتشريعية فى مصر وتنقية القوانين مما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، هو هدف نبيل، وأنا شخصيا معه شكلا وموضوعا، وناديت به قبل الثورة وبعدها، ولكن يجب تحقيق هذا الهدف بطريقة لا تعرض المجتمع لفوضى، بل بالتدريج، وعن طريق خبراء متخصصين وليس عن طريق سياسيين كل هدفهم الانتصار لفصيلهم والتمكين له.
∎ قواعد القانون
أما المستشار خالد أبوهاشم الرئيس بمحكمة جنايات الإسكندرية فيقول: «القاضى لا يستقيم له أن يعمل بالسياسة لأن عدله يقوم على حقائق وقواعد قانونية ثابتة أما السياسى فإنه يتلاعب بالوقائع ويطوع الحقائق لتخدم مصالحه وتحقق أهدافه وهذا يخرجه من سدنة العدالة، ولذلك رفض القضاة الخروج عن قيمهم وتقاليدهم الثابتة والانضمام للاتحاد الاشتراكى عام 9691 فوقعت مذبحة القضاء، وعلى عكس ذلك بدأت بعض التيارات السياسية فى بدايات العقد الماضى تدخل نادى القضاة بتأييد قلة من أعضائه ليتحاوروا معهم بوصفهم مواطنين مصريين يهمهم شأن الوطن، فدخل القضاة ومعهم تلك التيارات السياسية فى مسائل خلافية مع الآخرين فوقع الانقسام ووصف بعض القضاة أنفسهم بأنهم مستقلون وغيرهم حكوميون يزورون الانتخابات لصالح السلطة وأن أحكامهم مسيسة وكانت هذه بداية الفتنة المستمرة حتى الآن، والتى هزت صورة القضاة فى نظر المجتمع.
∎ استياء القضاة
وأخيرا يؤكد المستشار عبد الله فتحى نائب رئيس محكمة النقض ووكيل أول نادى القضاة رغم الحظر على اشتغال القضاة بالسياسة أو الانتماء لأحزاب أو اعتناق آراء أو مبادئ فيها شبهة سياسية أو تنادى بما يعتنقه حزب أو فصيل أو جماعة فإن بعض القضاة خرجوا عن المألوف وما ارتضته الأسرة القضائية منذ ما يقرب من قرن كتقاليد وأعراف وكونوا ما يعرف بحركة تعمل فعلاً بالسياسة، وأصبحوا سياسيين يتخذهم آخرون واجهة لهم داخل القضاء، وهذا لا يجوز وجموع القضاة مستاءون من مسلكهم الذى لم يقم به ولم يرض عنه تيار الاستقلال المختلف معنا فى الفكر ولأن المد الثورى الذى يسود البلاد الآن وعدم قدرة أى جهة على اتخاذ إجراء ما والفوضى العارمة التى تسود المشهد فإن الجهات المناط بها ردعهم واتخاذ إجراء يوقف اشتغالهم بالسياسة لم تفعل حيالهم شيئا، لذلك تقدم النادى الذى يدافع عن مصالح القضاة الذين انتخبوه ببلاغ إلى مجلس القضاء الأعلى ليصون كرامة كل القضاة ويمنع الاشتغال بالسياسة الذى تجرأ عليه من لا يعرف قدسية المهنة التى ينتسب إليها والتى تلزمه أن يكون فقط قاضيا وليس سياسيا.∎