تعلمت أكبر درس فى حياتى من رجل أمى لايجيد القراءة أو الكتابة.. جاء من أفغانستان سيرًا على الأقدام فأدى فريضة الحج ثم استأنف رحلته نحو الغرب وقد اعتزم مواصلة سيره حتى مراكش.. التقاه أبى عندما حلّ على قريتنا "بهوت" دقهلية، وأدرك من حاله وصدق حديثه أنه (على باب الله) فاستضافه ليقضى فى قاعة الضيوف عندنا مدة زيارته للقرية، فليس فى القرية لوكاندة وحتى لو وجدت فهو لا يملك نقودًا لينفق على إقامته. كنت قد انتهيْت فى ذلك الوقت من التعليم الثانوى وفى انتظار القبول بالجامعة، وأقضى إجازة الصيف كالعادة مع الأسرة.. جاء أبى بهذا الرجل الغريب فأوصى به ثم تركه معنا لينصرف إلى بعض شئونه.. وكنا عددًا من الشبان الأقارب، اعتدنا أن نقضى العطلة الصيفية كلها نلعب وننشط معًا.. نتمتع بشعور قوى بالمسئولية ونحظى بثقة الكبار.. وكنا دائمًا عند حسن الظن من الجميع.. حَفِلْنا بالقادم الغريب وقدّمنا له الغداء.. وبعد صلاة العصر جلسنا معه نستكشف هويته ونتعرّف على مقاصده.. سألته: كل هذه المسافة من أفغانستان إلى هنا قطعتها مشيًا على قدميك.. وليس فى جيبك نقود على الإطلاق..؟! قال نعم.. وما حاجتى إلى النقود..؟ قلت تشترى بها طعامك وشرابك.. وتنفق على مأواك.. قال: طعامى هنا فى هذا الكيس أحمله على كتفى.. ثم مد يده فى الكيس وأخرج منه حفنة من كِسْرات ِخبزٍ جاف.. وقال هذه هى مؤونتى من الطعام.. كلما شعرت بالجوع التقمت شيئا منها.. ثم أشرب جرعة من الماء.. سألته: ومن أين لك بالماء..؟ قال وهو يضحك: يابنى الماء موجود فى الأنهار بلا ثمن.. سألته: إذا شعرت بالتعب أو حلّ عليك الليل فأين تذهب لتنام؟؟ أجاب: فى أى مسجد أو تحت شجرة.. وأرض الله واسعة.. سألته: ألا تشتاق لطعام ساخن مطهيّ..؟ قال: نعم أشتاق من حين لآخر.. ولكنه يأتينى من غير أن أطلبه.. سألته: كيف..؟ قال وهو يبتسم.. ألم تقدموا لى اليوم طعامًا ساخنًا مطهيًا..؟! هذا ما يحدث لى فى كل بلدة نزلت بها فى كل بلاد المسلمين: من باكستان إلى إيران إلى العراق.. وفى الأراضى المقدسة.. ثم الأردن وفى مصر حتى وصلت إلى بلدتكم.. بلاد المسلمين يابنى عامرة بأهلها وفيها من الكرماء والخيّرين أناس لا حصر لهم.. لاحظت أن الرجل يستشهد فى حوارنا معه بالأحاديث النبوية وبآيات من القرآن يتلوها تلاوة عربية صحيحة بنغمة محببة إلى الأذن.. قلت له: أرى من حديثك وتلاوتك أنك تجيد اللغة العربية وتحفظ الكثير من آيات القرآن.. فكيف تعلمت ذلك وأين..؟ أجاب تعلمت العربية سماعًا وحفظت القرآن والحديث سماعًا.. فأنا لم أتعلم فى المدرسة ولا أجيد القراءة ولا الكتابة.. وكانت هذه مفاجأة مذهلة لنا جميعًا نحن الطلاب.. ثم جاءت المفاجأة الثانية عندما سألته هل تعرف شيئًا من تاريخ الإسلام..؟ قال: أحفظه ابتداءً من السيرة النبوية إلى اليوم.. قلت له: هل تذكر لنا شيئًا مما حفظته عن الغزو المغولى أو الصليبى.. فشرع الرجل يتلو ويترنم بصوت رخيم وكأنه ينظر إلى كتاب مقدس مفتوح أمامه.. يحكى بنبرات تعكس انفعالاته قصص الملاحم التى خاضها المسلمون بقيادة أبطالهم العظام؛ أمثال سيف الدين قطز والظاهر بيبرس فى ملحمة عين جالوت.. ثم ينتقل بعدها إلى ملاحم صلاح الدين الأيوبى ومعاركه فى بلاد الشام ضد الصليبيين.. ويقف طويلا عند معارك بيت المقدس ليبرز تفاصيلها.. وتشتد حماسته مع احتدام المعارك.. حتى خشينا أن يهلك الرجل من تأجج مشاعره واشتعال عواطفه وكأنه يحارب فى ميدان المعركة مع المقاتلين.. شخصية غريبة تتمتع بخصائص فريدة هى مزيج من الزهد والتقشف، ومجاهدة ما يشبه المستحيلات، و التّسامى بالواقع الذى يبدو جافًا مجدبًا فقيرًا، فإذا بك تشعر وكأنك أمام شخصية حية خصبة متوهجة.. بل متألقة.. وهذا هو الانطباع الذى خلّفه هذا الرجل الغريب فى ذاكرتى ووجدانى.. وأثّر فى مواقفى حتى اليوم.. لقد بلغ الرجل فى زهده أنه حصر كل احتياجاته من الحياة الدنيا فى كِسْرات من الخبز الجاف الذى يحمله على كتفه، واقتحم الدنيا بجسارة نادرة فلم يشعر أنه ينقصه شىء، استغنى عن كل شىء، وعاش طليقا متحرر الإرادة يمارس نشاطه الإنسانى ويتمتع بالحج وأداء المناسك.. ويرتحل فى آفاق الأرض يقطعها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، كأنه من أغنى الأغنياء.. بينما هو لا يملك دينارًا ولا درهمًا.. كنت كلما ألمّت بى ضائقة تذكرت هذا النموذج الفذ من الناس البسطاء.. وتذكرت كِسْرات الخبز التى لا يملك سواها من متاع الدنيا.. ومع ذلك يتمتع بحرية تكاد تكون مطلقة.. تأكّد لى من هذه الواقعة ومن تجارب عديدة فى حياتى أن خيار الحرية أو العبودية يبدأ من هذه اللحظة الفارقة: إما أن تستغنى عما فى أيدى الناس وتعتمد على الله وحده، أو تطمع فيما عند الناس وتبيع حريتك وإرادتك لحساب سيطرتهم وسطوتهم عليك.. فى الاختيار الأول تشعر بكامل حريتك وإنسانيتك.. وفى الثانية أنت لست حرًا ولست إنسانًا على وجه الحقيقة، إنما أقرب إلى مسخ فى مظهر إنسان.. وكان هذا هو الدرس الأول والأعظم فى حياتى.. تعلمته من إنسان بسيط أمى فقير إلى أبعد حدود الفقر البشرى بمقاييسه المادية.. فإذا صادفت شخصًا من النوع الثانى وما أكثرهم على الساحات الإعلامية والفكرية والسياسية فاعلم أنك أمام مسخ بشرى لا إنسان حر مهما علا مركزه الوظيفى، ومهما بلغت سلطته، أو ثروته، أو ارتفع صيته وامتدت شهرته فى الآفاق.. لقد تعلمت من الأفغانى البسيط (منذ ستين عامًا) أنك لكى تفهم جوهر الناس وحقائقهم الجوانية أن تجرِّدهم أولا من الأقنعة والهالات البرّانية التى يتحصنون بها.. لتراهم على حقيقتهم العارية من كل زخرف أو زيف.. لذلك لم أنْحنِ فى حياتى أمام أحد من البشر، سوى أبى الذى لم يزجرنى يوما من الأيام.. ولم يرفع يده على ليضربنى أو حتى يهدّدنى، تحمّل أخطائى الصبيانية بابتسامة عتاب.. واحترم إنسانيتى طفلا كأننى شخص بالغ رشيد.. لذلك ظللت طول حياته أشعر بسعادة غامرة كلما أشرق على بوجهه الباسم؛ فكنت أسعد بلقائه وأنحنى لتقبيل يده فى حب واحترام غامرين.. حتى بعد أن تخرجت فى الجامعة وعملت وتزوجت وأنجبت الأطفال.. وبعد أن تولّيت وظائف شرفية ممثلا ثقافيا لمصر فى الفلبين، لم تفارقنى هذه المشاعر تجاه أبى.. وكان أكثر ما أثّر فى وفى قرارى أن أقبل وظيفة اليونسكو هو أن أكون قريبًا منه حسب رغبته؛ فقد بعث إلى وأنا فى أستراليا برسالة بسيطة يقول فيها: "ألم تكفكَ الغربة النائية عشر سنوات فى أستراليا يا بنيّ.. ألا تستطيع أن تجد لك عملا فى بلد قريب منا حتى نراك من وقت لآخر". وكنت سعيدًا بوظيفة اليونسكو فى قطر؛ لأننى أصبحت على بعد ساعة بالطائرة من مصر.. ولكن لم تتم فرحتى بهذه النقلة؛ فقد توفّى أبى يرحمه الله بعد شهر.. ولكنهم حجبوا عنى خبر وفاته.. كنت أتلهّف على زيارة مصر فى أول فرصة سانحة، وكنت أحتفظ بآخر رسالة من رسائله التى بعثها إلى قبل وفاته بأيام.. أقرأها مرة بعد أخرى لأستشعر فيها تعبيره عن سعادته بهذه النقلة المباركة.. ولم أكن أدرى أننى كنت أقرأ رسالة مضى صاحبها إلى لقاء ربه.. لذلك كان حزنى عليه عظيمًا.. ومرة أخرى كان أبى نموذجًا آخر للرجال البسطاء الذين تلقّوا تعليمًا بسيطًا فى كتّاب القرية فحفظ القرآن وتعلم الكتابة والقراءة والحساب، بالقدر الذى مكّنه من إدارة شئونه المالية وحسابات مزرعته، وكتابة رسائله.. وفوق هذا كان يتمتع بحكمة فى الحياة يُغبط عليها، كان يفصل بالعدل فى مشاكل الناس، مؤتمنا على ودائعهم وأموالهم، وكان ناشطا فى السياسة والشئون العامة طالما كان ذلك فى مصلحة القرية.. لقد كنت أغبطه على صبره وتسامحه فى معاملة الناس.. وأندهش لأسلوبه فى تربية الأطفال وأقيس نفسى عليه فإذا هو يتفوق على وأنا خريج الجامعة الذى درس الفلسفة وعلم النفس، وعلم الاجتماع السياسى. الناس البسطاء الذين عرفتهم عن قرب فى حياتى كثيرون، كان بعضهم فقيرًا، وبعضهم أميّا أو كان حظهم فى التعليم قليلاً.. ولكنهم كانوا مثقفين لا تنقصهم الحكمة ولا الشخصية، ولا الشرف، ولا الكرامة، ولا ينأون بأنفسهم عن خدمة الناس.. وإعانة المحتاج.. هؤلاء الناس هم الذين تتشكل منهم الكتلة الأساسية لهذا المجتمع.. الذى تنهال عليه اليوم سياط الصحافة المأجورة.. لأنهم اختاروا نوابهم من التيارات الإسلامية.. إنهم الشعب الذى أعطى الثورة قوتها الدافعة، ومع ذلك يزدريهم السياسيون والإعلاميون.. ويعيّرهم بطرس بطرس غالى بالجهل والأمية والفقر...! أعرف منهم العشرات.. كل واحد منهم يتمتع بخصال يفتقر إليها أدعياء الثقافة، والسياسيون الذين استمرأوا الكذب والنفاق والانتهازية والكسب الحرام.. فهم على طهارتهم الفطرية يجتهدون بالارتفاع بأنفسهم على واقعهم الذى فُرض عليهم.. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الحاج محمد لبيب جناينى مدرسة طوخ الثانوية الذى كان ينافس الطلاب فى القراءة بمكتبة المدرسة ويحصل على جوائز أسبوعية لأحسن القراء، والشيخ حامد الجغر خادم مسجد البداروة فى بهوت الذى كان يحضر معنا حلقات القراءة والتعليق على الكتب.. فى المسجد وكان يتميز بلمحاته الذكية و طرائفه التى لا ننساها.. والشيخ محمد رشاد زيان إمام وخطيب المسجد.. المعتز بنفسه وعلمه.. كانت له عصا أنيقة لا يفارقها حتى وهو على المنبر.. ويشير بها على المصلين ألا يقفوا تحية لحضور الباشا البدراوى.. الذى يحضر عادة متأخرًا عن بقية المصلين.. ويقول لهم بصوت زاجر قوى: اجلسوا فى أماكنكم فالجميع هنا فى المسجد سواسية أمام الله.. كان يشبه فى هيئته وعمامته وشموخه الشيخ جمال الدين الأفغانى.. ثم يأتى دور أبطال انتفاضة الفلاحين فى بهوت على الإقطاع فى يوليو 1951 وكان مفجّرها شبان ما زلت أذكر من أسمائهم: محمد حامد البهوتى، ومحمود مجاهد مشعل، وحسين البسيونى، وعبد الحميد المهدى فارس.. كلهم من الناس البسطاء.. كانت انتفاضتهم هى التمهيد التاريخى لانتفاضة الجيش بعد ذلك بعام واحد على النظام الملكى.. وكان بين الثوار امرأة تسمى بهية ألهمت شجاعتها الشاعر نجيب سرور فكتب مسرحيته الشهيرة:"آه ياليل يا قمر.." سنة 1966 حيث قُدّمت بإخراج جلال الشرقاوى على مسرح محمد فريد فى العام التالى.. كل هؤلاء مجرد عينات من المصريين البسطاء الذين تصادف وجودهم فى حياتى المبكرة.. خَبَرْتهم عن قرب.. فأحببتهم واحترمتهم وتعلمت منهم أشياء كثيرة.. ظلّت عالقة فى ذاكرتى ووجدانى.. وعندما أقارنهم اليوم بكثير من الشخصيات اللامعة فى أفق الصحافة والثقافة والإعلام والسياسة، أجد نفسى، منحازًا لهؤلاء الأبطال الحقيقيين، لأنهم يمثلون الأصالة المصرية، مزدريا أولئك الذين يحيطون أنفسهم بهالات برّاقة، لأنها تنطوى على زيف وكذب، وادعاء ونفاق، وتخفى وراءها ضمائر ميتة.. وكل هذا دخيل على أصالة هذا الشعب ومعدنه النبيل...