لن تجد نظرية المؤامرة رائجة إلا في البلدان الشمولية، والسلطوية، والاستبدادية، كوبا، كوريا الشمالية، إيران، السودان، سوريا تحت حكم عائلة الأسد، العراق أيام صدام ، ليبيا زمن القذافي، ميانمار تحت الحكم العسكري، بلدان أوروبا الشرقية خلال خضوعها لسيطرة وقبضة الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، بلدان أمريكا اللاتينية قبل دخولها نادي الديمقراطية، والخلاصة أن كل بلد غير ديمقراطي ستجده يصّدر نظرية المؤامرة لشعبه للتغطية على ضعفه، وبلادته، وإخفاقاته، واستبداده، ولتعبئة مواطنيه باستمرار وراءه بنشر الخوف لديهم من المتآمر الخارجي الذي هو دوما قوة دولية كبرى قادرة ونافذة حتى يسهل إقناع الشعب بأن هذا الغول القوي يخطط لإسقاط بلدهم الأقل في القدرات والإمكانيات. تابعوا الخطاب الرسمي، وملحقاته التي تتولى مهمة التخديم عليه، والحشد له، من وسائل دعاية، ومن نخب وتنويعات سياسية وحزبية وثقافية وفكرية ودينية تدور في فلك السلطوية في أي بلد غير ديمقراطي في العالم حيث ستجدون مشتركا أعظما واحدا، وهو الحديث عن المؤامرة، يالها من مؤامرة ملعونة لا تستهدف إلا تلك البلدان التي غالبا لا تمتلك ميزات نسبية تجعل القوى التي تستهدفها منشغلة بها على الدوام، وتستخدم كل وسيلة لتعويق حركتها ونموها وتقدمها. أكثر دولة في العالم مثلا متهمة بالتآمر هى أمريكا، ستجدها الحاضر دوما، إن لم يكن في الخطاب الرسمي، ففي الخطاب الإعلامي الدعائي الموجه، بأنها تتآمر على الشعوب والأوطان، واتصور أن أمريكا لو تفرغت للتآمر على كل البلدان التي تتهمها بذلك ما كانت أمريكا الأقوى في العالم والمهابة الجانب من الجميع، وما كانت أمريكا صاحبة النفوذ والتأثير الطاغي في جهات الأرض الأربعة، وما كانت أمريكا التي إذا أرادات فعلت، والتي ينتظر الجميع كلمتها الأخيرة في أي قضية، ومنهم للمفارقة الدول التي توجه لها تهمة التآمر عليها، هل الأمريكان مشغولون فقط بالتخطيط ضد هذه الدولة، أو تلك، ليس وراءهم شيء إلا إسقاط الدول ونشر الفوضى، كيف يبنون مجدهم إذن؟. لدى الأمريكان ميزة، وهى أنهم يجاهرون بعداوتهم لمن يعادونه، لا يخفون شيئا، وإذا أخفوا فإن الإعلام الحر وقوى الضغط والتأثير الشعبي هناك تكشف، مجتمع مفتوح ومنفتح، وميزتهم الأخرى أنهم يسيرون حيث تكون مصالحهم، فإذا وجدوا أن مصالحهم تفرض عليهم التخلي عن العداوة، فإنهم يغلبون المصالح فورا، ولا يخجلون، فهم غير محكومين بعُقّد من أي نوع، وجههم مكشوف، بعد نحو نصف قرن من العداء مع كوبا، استعادوا العلاقات الدبلوماسية، وهم في طريق التطبيع اليوم، وبعد أكثر من 35 عاما من العداء مع إيران يوقعون اتفاقا نوويا، والعلاقات تتطور وتتحسن، وبعد العداء مع عبدالناصر في مصر، فإنهم استعادوا العلاقات مع السادات، وتوثقت مع مبارك، ولم تتزعزع بعد 25 يناير، عكس ما يروج له أصحاب نظرية المؤامرة الذين يريدون إثارة الذعر بأن أمريكا تستهدف مصر، ولماذا تستهدفها وهى طالبت مبارك بالرحيل، ورحبت بثورة يناير، ولم تجد مشكلة في وصول الإخوان للسلطة بالانتخاب، ولم ترفض عزل مرسي، وتتعاون مع نظام مابعد 3 يوليو، إنها المصالح، وليس القيم والمبادئ، ومن يراجع الخطاب الرسمي المصري منذ 3 يوليو وحتى الآن لن يجد موقفا عدائيا تجاه واشنطن، ولا حديثا عن مؤامرة أمريكية، ولا إشارة نقد للأمريكان، بل سيجد إصرارا على تطوير العلاقات وتعزيزها وتوثيقها، وأنه لا غنى عن أمريكا وعن مساعداتها ودعمها لمصر في مختلف المجالات، من لا يصدق فليراجع تصريحات السيسي خلال وجوده في نيويورك خلال شهر سبتمبر الماضي للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث كان جانبا مهما من نشاطه هناك مع أمريكيين مشرعين، وسياسيين، واقتصاديين، ومستثمرين، ومفكرين، وإعلاميين، ومفاتيح في توجيه الرأي العام، والتأثير على صناع القرار في البيت الأبيض، والكونجرس، والبنتاجون، وكلها كانت تقطر إشادة بالأمريكي، وبالعلاقات مع أمريكا. لن تجد في أي بلد ديمقراطي حقيقي وجودا لنظرية المؤامرة، لن تعثر عليها، لأن النظام الحاكم المنتخب لا يستطيع خداع شعبه، ولا تعميمه، عنده معارضة قوية يقظة، وإعلام حر يقف له بالمرصاد، ومؤسسات مجتمع مدني لا يمكن التلاعب بها، وشعب واع انفطم وانتهى الأمر، وأي كذبة، أو تلفيق ولو بسيط فهو كفيل بخفض أسهم الحزب الحاكم، وخروجه من السلطة في أقرب انتخابات، وحصل ذلك مع خوزيه ماريا إزنار رئيس الحكومة الإسبانية وقت تفجيرات القطارات في 2004 حينما رمى بالتهمة سريعا على منظمة إيتا الانفصالية، ثم ظهر أن القاعدة هى من ارتكبت الجريمة، فأطاح به الشعب، وجاء بحزب المعارضة الاشتراكي للسلطة. الحكم في الديمقراطيات يأتي لمهمة محددة، وهى خدمة الشعب، لذلك يكون صريحا مع الشعب، ولا يتلاعب بعقوله، ولا يتهرب من مسؤولياته، ولا يسعى للبقاء في السلطة خارج إرادة الشعب، لهذا يكون صريحا وشفافا. في هجمات فرنسا الأخيرة لم نسمع أو نقرأ عن نظرية المؤامرة ضد فرنسا، لم يقل الفرنسيون إن الأمريكان تآمروا عليهم، لا في الخطاب الرسمي، ولا في الخطاب الإعلامي والشعبي، ولم يتحدث أحد عن تآمر بريطاني، أو إسرائيلي، بل هم وقفوا إلى جانب فرنسا، وقد اتصل الرئيس الفرنسي أولاند برئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو ليشكره على دعمه لبلده، لكن هناك في مصر من قال إن إرهاب فرنسا مؤامرة مصر، وانتقام من فرنسا، وإن إسقاط الطائرة مؤامرة على مصر، وانتقام من روسيا، والبعض حدد المتآمرين بأنهم: أمريكا، بريطانيا، إسرائيل. ياله من عقل مسكون بمرض المؤامرة، لذلك لنا فيه حديث آخر. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.