المؤامرة هى جزء أصيل من حركة التاريخ وتفاعلاته، غير أن المشنغلين بها والواقعين فى شركها هم فريسة سهلة للمتآمرين عبر العصور كافة. لقد عرف التاريخ أشكالًا من المتآمرين، وأصنافًا من الحكام والدهاة ما يصعب تقديره وحصره فى مقال. بل ما زالت كتبه ومصادره تقدم لنا عشرات المؤامرات والمتآمرين كل يوم. تقص علينا ملامح مؤامراتهم وكيف نسجوها لخصومهم، ومن ينازعهم السلطان والملك. حتى وصلنا إلى وجود ما يسمى بنظرية المؤامرةConspiracy Theory . تلك النظرية التى تقرأ الماضى والحاضر على أنه من صنع المؤامرات وتدبيرها. ولما كانت المؤامرة لا تقتصر على شعب دون آخر، ولا تختص بمنطقة دون أخرى، لذا فإن الحديث عن شعوب أو مناطق تقرأ ماضيها وحاضرها بتلك النظرية فقط، هو حديث الأزمة والورطة التى نعيشها. فالترويج لنظريات المؤامرة وصل لأقصى مداه على يد اليمين الأمريكى المحافظ ضد الخطر الشيوعى فى الفترة 1947-1957. وراح النظام العالمى الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتى سنة 1990 يخترع عددًا من المتآمرين ليضخ الحياة فى شرايينه وليضمن بقاءه يقظًا. حتى أن البعض فسر التاريخ الأمريكى نفسه عبر نظرية المؤامرة، وبأن نخبة قد استولت على أمريكا، واستحدثت من الوسائل والحيل ما مكنهم من السيطرة على المجتمع. بل إن اليمين الأمريكى دائمًا ما يتحدث عن وجود مؤامرة قديمة جديدة وغامضة، هدفها تخريب أسس المسيحية واليهودية فى العالم الغربى. وبالتالى حاولوا خلق نظام عالمى جديد عبر دين واحد، يعد الجماهير بعبادة المسيخ الدجال. وبالطبع عاش عالمنا العربى، وما زال يعيش، جو المؤامرات ويستغرق فيها ويستسهل فهمها ويقع أسيرًا لها. فالمؤامرة هى جزء أصيل من تاريخ الشرق الأوسط بصفة عامة، وعالمنا العربى بصفة خاصة. تقول العرب، على لسان قيس بن الحطيم، بيتًا من الشعر يعد شاهدًا من شواهد النحو والعروض: إذا أنتَ لم تنفع فَضُرَّ فإنّما .. يُرَجّى الفَتى كَيْما يَضُر ويَنْفَعا فهل إذا فشل الإنسان فى النفع، فلا سبيل أمامه إلا الضرر وإلحاق الأذى بالآخرين؟ أم أن هذا البيت يمكن فهمه فى إطار المنافسات القبلية التى كانت تجرى زمن الجاهلية؟ ففى ضوء نظرية المؤامرة الذى نعيشه، فإن تصنيف الرئيس مرسى فى دائرة المتآمِر هو إفراز طبيعى لجو المؤامرات الذى تحياه مصر وتحكيه. فحديث المؤامرة لا ينقطع بالليل الفضائى حتى الفجر، بل ويولد من جديد كل صباح، عبر أحاديث العمل والأسواق والطرقات والشوارع. تسمع كل يوم بوجود مؤامرة هنا وأخرى هناك، وكأن المتحدثين كانوا من ضمن أطرافها أو من المدبرين لها. تسمع أحاديث الإفك يوميًا، فتدرك بأن ابن سلول قد نجح فى خلق الشائعات وترويجها عبر القرى والنجوع كافة. فتسبب فى نشر الأحقاد بين الفرق والمجموعات، وبث جذور الفتنة فى كل النواحى. فلا حديث طيلة الأيام الماضية إلا عن مؤامرة الجنود المخطوفين، وأن الرئيس وجماعة الإخوان هم الذين افتعلوها لتحقيق أى إنجاز وإقالة وزير الدفاع، وتحسين الصورة السيئة المبثوثة يوميًا. المدهش فى الأمر هو حديث البعض حول هذا الأمر، وبأن الرئيس لم يعد يتحمل أن يتحدث بنفسه عن المؤامرات التى تحاك ضده، ولا يعرف من يدبرها له. ولما لم يكن فى إمكانه الحديث عن مؤامرات يفترضها سلفًا فى خصومه، ويحتاج الدليل عليها، فإن الظرف القائم جعله ينحى منحًا آخر. فحديثه أمام جماهير الاتحادية المعروف، ولقاءاته التليفزيونية المتعددة، واجتماعه مع المجلس الأعلى للمرأة، وحديثه عن مؤامرات مكشوفة تحاك ضده بالليل والنهار، وأنه حددها فى ثلاثة أو أربعة أشخاص يجلسون على كوفى شوب، وعن أصابع ثلاثة أو أربعة خارجية تتآمر مع أطراف داخلية، وأنه يعرفها وسيقطعها، كل ذلك يروج، ودون أن يتخذ موقفًا للخلاص من المتآمرين، قد أظهره شخصية ضعيفة لا تملك من أمرها شيئًا. وإذا كان معارضوه يقولون إنهم يمسكون أفعالًا على تآمره، ويعددونها فى الإعلان الدستورى ومشروع قانون السلطة القضائية، وزيادات الأسعار وغيرها، إلا أن الرئيس لم يمسك حتى الآن بإجراءات، تدين سلوك المتآمرين عليه وعلى أمن البلد واستقراره. ولعل الأحاديث المتداولة عن حادثة اختطاف الجنود وعودتهم، هو الذى يكشف العوار الذى تعيشه بلادنا فى جو المؤامرات. يا سادة أصبحنا نعيش المؤامرة بالليل والمؤامرة المضادة بالصباح بشكل شبه يومى. يا سادة، الرئيس المتآمِر فى عيون مؤيديه هو أقوى وأشجع من رئيس مُتآمر عليه. أما الرئيس المتآمر عليه فى عيون معارضيه، فإنه يعطى الشرعية لخصومه لحبك المؤامرات ضده، طالما أنه نزل البحر ويريد أن يثبت أنه عوام. وطالما أن خصوم الرئيس قد أوقعوه فى الفخ المنصوب، وأصبح فى نظرهم يدبر المؤامرات بشكل علنى ومكشوف، فإن العاقبة ستكون وخيمة. فكما أن الأنصار يرون الرئيس المتآمِر، ذكيًا لديه القدرة على التدبير والحبك، فإن الخصوم يرونه يقدم الشرعية للاحتشاد ضده والتآمر عليه. البلد تضيع منا يا سادة، ونحن مشتتون بين مؤامرة تمرد، وردود فعل تجرد. وكلٌ يرى فى الآخر متآمرًا وعميلًا لقوى خفية غير معروفة! حديث المؤامرة هو شر على البلاد والعباد، ولا خير فيه، ولا أمل من ورائه ولا رجاء. وإذا نجح خصوم الرجل فى تصديره للناس على أنه متآمِر، سيسقط حتمًا فى دوامة المدركات الشعبية غير المتوقعة. فالناس تكره المؤامرات وتلعن المتآمرين وتلفظهم. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.