إما أنه مخطط نُفِّذ بذكاء ودهاء، وإما أنه نوع من الغباء السياسي والفشل في قراء الواقع! هكذا يمكن قراءة التفجيرات التي هزت العاصمة السورية دمشق غداة بعثة المراقبين العرب لها لتنفيذ تطبيق المبادرة العربية، ومحاولة وقف المجازر في حق الشعب السوري الأعزل. تفجيران قد يغيران من بوصلة الثورة السورية، التي طالما افتخرت بأنها ثورة "سلمية" تأثرت بثورات العرب السلمية المجاورة في مصر وتونس، وحاولت جهدها أن تجذب إليها أنظار العالم الخارجي، لعله يتحرك كما تحرك على الجانب الليبي، ولعل الناتو يدرك أن دماء الشعوب لا تتمايز عن بعضها البعض، ولكنها لم تنجح حتى الآن في إصدار قرار أممي في حق نظام بشار الأسد، في ظل تجاذبات دولية معروفة بين الجانب الروسي من جهة، وأمريكا وحلفائها من جهة أخرى. تفجيرات دمشقية غير مسبوقة ما حدث أمام مبنى أمن الدولة السوري من تفجير مروع أمر غير مسبوق في ظل دولة بوليسية، ربما لا يضاهيه إلا مقتل القائد البارز في حزب الله عماد مغنية قبل عدة سنوات. فقد نقلت وكالة "سانا" السورية للأنباء عن بيان للداخلية السورية أن مدينة دمشق استُهدفت بتفجيرين منظمين، حيث أقدم انتحاري بسيارة مفخخة على اقتحام الباب الرئيسي لفرع أمن المنطقة بدمشق، مما أدى إلى استشهاد العديد من العناصر الأمنية والمدنيين المارين في المكان، وإلحاق أضرار مادية كبيرة بالأبنية المحيطة. وأضافت الوزارة في بيانها أنه وبعد دقيقة واحدة استهدف انتحاري آخر مبنى إدارة المخابرات العامة بسيارة مفخخة رباعية الدفع نوع "جي أم سي"، مما أدى إلى استشهاد عدد من العناصر الأمنية والمدنيين المارين، وأوضحت الوزارة أن حصيلة العمليتين الانتحاريتين بلغت 44 قتيلًا و166 جريحًا، إضافة إلى أضرار مادية كبيرة في المباني والشوارع المحيطة. وقد سارعت الحكومة السورية إلى تحميل تنظيم القاعدة مسؤولية الأحداث، مما ألقى بظلال كثيفة على دور الحكومة نفسها في الحدث، عبر اتهامات وُجهت إليها بوقوفها وراءه لإفشال مهمة وفد الجامعة العربية. مابين الإدانة والترقب قوبلت التفجيرات بحملة إدانة واسعة النطاق على المستوى الدولي، حيث سارعت الولاياتالمتحدة بإدانته، وقالت: إنه "لا مبرر للإرهاب من أي نوع، ونحن ندين هذه الأفعال أينما تحدث". وقالت الخارجية الفرنسية في مؤتمر صحفي: "كما سبق وقلنا في أكثر من مناسبة، نحن نتمسك بالطابع السلمي للحركة الاحتجاجية، ونحن قلقون من الانزلاق إلى حرب أهلية حقيقية يقود إليها القمع الدموي والأعمى الذي يقوم به النظام". وأضافت أنه "إزاء هذا الوضع، على الأسرة الدولية أن تتحمل مسؤولياتها اليوم أكثر مما مضى"، مشيرة إلى أنه "من الملحّ اليوم القيام بكل ما يمكن في مجلس الأمن والمحافل الدولية، لوقف هذا القمع العنيف والوحشي". وفي بريطانيا، أدان وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط ألستير بيرت التفجيرين، وأعلن أسفه للخسائر في الأرواح والإصابات الناجمة عنهما. كما سارع حزب الله اللبناني والحكومة اللبنانية إلى إدانة الحادث، وكذلك فعلت الحكومة الأردنية. وسادت حالة من الترقب العديد من المراقبين والمتابعين حول التحول الخطير الذي قد تشهده الثورة السورية، وينزلق بها إلى مستنقع الصدام والدماء؛ فقد قال جوشوا لانديس، خبير الشؤون السورية في جامعة اوكلاهوما: "إنها مرحلة جديدة. نحن نتحول إلى العسكرة في هذه الحالة". وقال أنه يشعر بأن تفجيري الجمعة مجرد "تحذير بسيط"، مما قد تشهده سوريا التي قال محللون إنها تنزلق نحو الحرب الأهلية. كما أشار من طرف خفي إلى مسئولية الدول الغربية فيما حدث بصمتها طيلة الأشهر الماضية، وقال : "يحدث ذلك عندما تبدأ المعارضة السورية في اكتشاف أنها بمفردها". وقالت صحيفة "إندبندنت" البريطانية على لسان مراسلها لشؤون الدبلوماسية: "لقد أودت أولى التفجيرات الكبرى في الربيع العربي بحياة أكثر من 40 شخصًا في دمشق البارحة، الأمر الذي فجَّر الدموع خوفًا من أن تبلغ الانتفاضة السورية ذات الأشهر التسعة من العمر الدرك الأسفل من الفوضى والعنف". وتحت عنوان: "إراقة الدماء في دمشق"، اعتبرت صحيفة الجارديان في افتتاحيتها أن تفجير دمشق نقطة فاصلة في تطورات الأحداث في المنطقة، وأن الربيع العربي بات الآن على مفترق طرق، إذ ترى أن هنالك احتمالين لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في منطقة الشرق الأوسط: الأول: في حال سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وبقاء البلاد موحَّدة، وتجنُّبها حربًا طائفية، فلن يكون هنالك توقُّف لتقدُّم الثورة واتجاهها شرقًا، وقد تكون إيران هي المحطة التالية، كما لن تكون أيٌّ من الأنظمة الملكية العربية في منطقة الخليج بمأمن هي الأخرى عن رياح التغيير. الثاني: في حال انقسام سورية وتفكُّكها، فستصبح ساحة معركة إقليمية تؤجِّج نارها المصالح المتصارعة للجيران، ولن يكون ذلك بالسيناريو البعيد عمَّا جرى في العراق في عام 2006، أو في لبنان خلال الحرب الأهلية التي شهدتها تلك البلاد خلال الربع الأخير من القرن الماضي. عندئذ، سيصل الربيع العربي لا محالة إلى نهايته. أما صحيفة التايمز فقد علقت على تفجيرات دمشق بأنه "على المراقبين العرب أن ينظروا إلى أبعد من هجمات الأمس الانتحارية"؛ إذ اعتبرت الصحيفة أن التفجيرين يشكِّلان فرصة للنظام السوري لكي يؤكِّد للمراقبين العرب وجهة نظره القائلة "إن الاحتجاجات في البلاد تدبِّرها وتقودها القاعدة وقوى خارجية أخرى، بغرض زعزعة استقرار النظام". إلا أن الصحيفة تردف: "يتعيَّن ألاَّ يثني التفجيران المراقبين العرب عن متابعة تنفيذ المهمَّة الموكلة إليهم: أي مراقبة أعمال العنف والتعذيب والقتل التي سرعان ما باتت تدمِّر بلدًا عربيًا قديمًا، لطالما كان فخورًا بنفسه". الداخل والخارج معادلة متقاربة ربما تشكل معرفة الجهة التي تقف خلف التفجيرات مؤشرًا قويًّا على تطور الأحداث على الساحة السورية في المرحلة المقبلة، فمن ناحية سارعت قوى المعارضة السورية إلى اتهام النظام السوري بضلوعه في الحادث لتعطيل مهمة المراقبين العرب وتصدير فكرة الفزاعة "الأصولية" إلى الخارج، مما يسهم في بقائه، لاسيما بعد تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية عليه، مما يعني أننا أمام تطور نوعي في طبيعة النظام السوري وتحوله من الحالة المؤسسية إلى الحالة "المليشاوية" التي لا يتورع فيها عن تنفيذ أعمال إجرامية في حق شعبه والمدنيين الآمنين، كما يعني أننا أمام نظام لن يتورع عن ارتكاب المزيد من المجازر مقابل الحفاظ على كراسي الحكم. ولكن في المقابل فإن النظام يعلم أن مثل هذه الأعمال تظهره بمظهر الضعيف المخترق، وقد تغري المتربصين به في الإقدام على مثلها، كما أن هذه التفجيرات لن تقف عقبة أمام مهمة البعثة العربية التي أصرت على مواصلة مهمتها رغم جميع التحديات. إلا أن يكون الحادث انعكاسًا لتفكك النظام ذاته، وتحوله إلى مجموعة من القوى المتصارعة داخل البيت "الأسدي"، في ظل تباين المواقف الملحوظ مابين بشار وأخيه ماهر طيلة الأشهر الماضية. على الجانب الآخر يطرح تنظيم القاعدة نفسه بقوة، خاصة بعد تحذيرات لبنانية في الأيام الماضية عن تسلل عناصر من القاعدة إلى الداخل السوري، عبر منطقة "عرسال" الحدودية. فبصمات القاعدة لا يمكن إنكارها هنا، من حيث طبيعة الهدف وطريقة التنفيذ، والصراع الدامي الذي تخوضه عناصر القاعدة ضد الشيعة في العراق، حيث إن النظام السوري يمتد نسبه إلى الطائفة العلوية الشيعية، وهو ذو رابطة قوية بنظام الملالي في إيران. ودخول القاعدة هنا يعني أن الثورة السورية قد تفقد جزءًا كبيرًا من الدعم الإقليمي والدولي في المرحلة القادمة، حيث يرفض المجتمع الدولي تمامًا استنقاذ سوريا من نظام الأسد ليعطيها للقاعدة، وهو ما يقد يقوي نظام الأسد مستقبليًّا. ورغم صدور بيان منسوب لجماعة الإخوان المسلمين السورية يعلن مسؤولية الجماعة عن الحادث، إلا أن شكوكًا كثيرة تحيط به، لطبيعة الجماعة السلمية، والتي توقن أنها حققت بالسياسة ما لم تستطع تحقيقه بالعنف، وظهر ذلك واضحًا في تونس والمغرب وأخيرًا مصر. السلمية هي كلمة السر التي أهدت النجاح للثورتين التونسية والمصرية، وهو ما يجب أن تدركه المعارضة السورية قبل أن تدفع إلى مسار قد يغير من طبيعة ثورتها ويؤثر على فرص نجاحها. المصدر: الإسلام اليوم