19أغسطس الماضى كانت ذكرى مجيء أدولف هتلر(1989-1945م) إلى الرئاسة الألمانية وهو حدث_ تاريخى _ يمثل الكثير وما هو أكثر من الكثير للأمة الألمانية وأوروبا والعالم كله بحساب ما أحدثه هذا المجيء من أحداث كبيرة وخسائر كبيرة ونتائج كبيرة.. ويعتبر كثير من الباحثين أن مجىء هتلر كانت ضمن حالة تطور طبيعى لمكونات وأحداث فكرية وسياسية هامة أنتجت من ضمن أهم ما أنتجت مجىء هتلر والحزب النازى إلى السلطة العليا.. بسطاء الوعى يضربون الأمثال بنجاح هتلر والحزب النازى فى الانتخابات الديمقراطية التى أتت بهم إلى السلطة.. واللوم هنا على الديمقراطية والعملية الانتخابية برمتها لا على الواقع وما يحويه من أفكار وبشر.. ويذهبون إلى نتيجة مفرطة البساطة إلى أنه من الضرورى بل والحتمى وقتها أن ينقلب المجتمع على الديمقراطية ونتيجتها إذا أتت بمثل هتلر..!! وكأن الأمور ستسير بعد ذلك على هوى هواهم.. ولن تلقى ببذور تنتج أسوأ من هتلر ونازييه.. الفكر النازى لم يأت فى لحظة إلهام مباغته غرق فيها هتلر الذى جاءت به أغلبية كبيرة كانت تؤمن بمثل ما يؤمن به من أفكار مغروزة عميقًا ولم تتكون فى يوم وليلة.. ولم تكن أفكار تعبوية شعبوية.. كانت أفكار صلبة تستند لفلسفة يقف وراءها فلاسفة ومفكرين كبار أمثال إيمانويل كانط وفريدريك شيلر وآرثر شوبنهاور وفريدريك هيجل ويوهان فيخته. والموسيقار ريتشارد فاجنر وفريدريك نيتشه. فيخته وشوبنهاور ونيتشه سيوصفون بأنهم (السلطة الفلسفية الثلاثية للاشتراكية الوطنية) جوهر النازية.. ويحكى أن هتلر زار أخت نيتشه التى أعطته العصا التى كان يستخدمها أخاها فى آخر أيامه كتذكار.. الموسيقار الشهير ريتشارد فاجنر كان له تأثير هائل عليه وعلى كل إيحاءاته وخيالاته التى كانت الهامات للأفكار التى وجدت لها مجالا واسعًا فى الدماغ الألمانى الشعبى والثقافى.. صحيح أن هذه الأفكار تم فهمها واستيعابها بعقل وفهم وقت قراءتها لا وقت كتابتها.. لكنها كانت فى النهاية أفكار وفلسفات أضفت مشروعيه على مشروع يتمدد فى الواقع المعاش . ........... لكن ذلك كله شىء والحرب العالمية الأولى وما أنتجته تلك الحرب على الأمة الألمانية ماديا ونفسيا شيء آخر .. وبإمكان أى إنسان أن يستنتج ببساطه أن كل هذه الأفكار والفلسفات ما كانت لتغادر البهو الأكاديمى إلى دنيا السياسة والحرب لو لم تنته الحرب العالمية الأولى إلى ما انتهت إليه من نتيجة ..
سيقوم هتلر الذى كان جنديا فى الحرب العالمية الأولى بعد أربع سنوات بانقلاب 1923م ويفشل.. ثم يأت بعد تسع سنوات ولكن هذه المرة ب(السياسة) وبعد أن يكون قد فهم كثيرا مما كان خافيا عليه فى البيروقراطية الألمانية العتيقة وبعد الشهور التى قضاها فى سجن لاندسبرج عام 1924م عقب الانقلاب.. والطريف أنه كان يصف فترة سجنه تلك بأنها دراسة تكفَلت الدولة بمصاريفها فقد كانت الأيام الطويلة المنقضية فى بطالة جبرية فرصة مثالية للقراءة والتأمل. وخلال تلك الفترة تبحر هتلر فى القراءة وتوصل إلى فلسفة وجهت مسار كل تحركاته اللاحقة لكنه أضفى بها شرعية على مشروعه المروِع.. وكتب كتابه الشهير(أربع سنوات ونصف من الكفاح ضد الأكاذيب والغباء والجبن) الذى تغيَر فيما بعد إلى (كفاحي).. فى الكتاب أعلن الرجل عن فلسفته الخاصة تحت عنوان (الحركة الاشتراكية الوطنية). بعد حصوله على الجنسية الألمانية(هتلر نمساوي) وترشحه للانتخابات عام 1932 وعقده لاتفاق مرعب مع(الدولة العميقة) كما ذكرنا قبلا (رجال الصناعة وجنرالات الجيش) والذين كانوا قد ضاقوا بالانهاكات المالية وتعويضات الحرب باتفاقية (فرساى). امتلك هتلر فى قبضتيه أسرار الدولة ومفتاح دولابها الضخم.. لكنهم والحق يقال اشترطوا عليه أن يتخلص من قوات(العاصفة)التى كانت ضمن تشكيلات الحزب(القومى النازي) وفعل الرجل وتسلم الحكم. وصدق من قال إن الحرب العالمية الثانية (أكثر الصراعات دموية فى التاريخ الإنسانى 70 مليون قتيل) بدأت يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى.. ذلك أن مرارة الإذلال الذى ذاقه الألمان ما كانت لتمر دون أن تكون لها أثارها التى تتناسب مع تلك المرارة والإذلال.. اتفاقية( فرساى)التى كتبت عقب الحرب الأولى.. لم تكن مجرد(وثيقة) لترتيبات حالة ما بعد حرب لفريقين أحدهما منتصر والآخر منهزم.. كما يحدث دائما فى التاريخ.. لكنها كانت بالأساس وثيقة إذلال وهدم ومحو كيان للأمة الألمانية تفاصيل مرعبة تذكرها نصوص الوثيقة لا أدرى كيف تصور الساسة وقتها قيام (مستقبل) مستقر على أساسها ونحن هنا نتحدث عن أسماء بحجم كلمنصو ولويد وويلسون وأسماء أخرى كبيرة فى التاريخ الحديث.. ومن يريد تفاصيل أكثر فى هذا المعنى يرجع لما تم فى (صالة المرايا)بقصر فرساى فى باريس حيث توقيع وثيقة الانتصار فى مقطورة (فوش)على نهر السين حيث باريس المتلألئة بأنوار النصر إمعانا فى إذلال الجنرالات الألمان المهزومين. يمر عقدين من الزمان وتتبدل الأطراف فى مقطورة (فوش) حيث يصر هتلر أن توقع وثيقة ( سقوط باريس) فى نفس المكان.. الإذلال والإذلال المتبادل.. حيث غرائز البشر ونزعات الثأر والانتقام حين تتملك أنياب ومخالب.!!
سينتصر الحلفاء فى الحرب الثانية ويكونوا قد كانوا قد استوعبوا تماما الدرس الرهيب وأوقفوا هذا الهراء التاريخى الأهطل المعروف ب (إذلال المهزوم) ولم يفعلوها ودخلت أوروبا بعدها الحقبة الجميلة لتغنى نشيدها الاتحادي(نشيد الفرح) من أشعار شيلر وألحان بيتهوفن والاثنين ألمان .. ستظل شخصية هتلر وأفكاره ورجاله موجودة فى كل وقت وحين إذا ما توافرت عوامل ظهورها واكتمالها على نحو ما توافرت لهتلر وحزبه.. لن يعدم التاريخ شخصًا مثله تملؤه المرارة والهزيمة والإحساس بالذل والرغبة الثأرية فى الانتقام .. وسرعان ما سيجد أيديولوجيات وفلسفات تؤسس عميقا وصلبا لما تكون لديه من شعور فتصنع منه واقع فكرى وسياسى وحركى وتنظيمى.. يواجه به الدنيا كلها بمثل تلك الشراسة والعنفوان التى خرج بها هتلر والحزب النازى إلى الدنيا.. وعلى الإنسانية كلها أن تدفع الثمن غاليًا.. دما ونفوسا.. حضارة وعمرانا. تاريخنا السياسى المعاصر به من النتائج ما يشبه ذلك.. صحيح بأسباب ومقدمات وأحداث مختلفة.. ولكن يبقى كثير من عناصر التشابه وكثير من العبر التى لا تعتبر. كنت قد سألت د.خير الدين حسيب المفكر القومى الكبير والناصرى العتيد عما قد عساه يكون السبب الحقيقى وراء الإهانات والإذلالات البالغة التى ألحقها الرئيس الأسبق ج ح عبد الناصر بالإخوان فى سجون الخمسينيات والستينيات تعذيبا وتقتيلا وتشريدا..ألم يكفه أنه انتصر عليهم؟ لماذا لم يكتف بسجنهم وغلق السجون عليهم فى هدوء واحترام؟ وأملا فى أن يستصلحهم لحكمه وللوطن ذات يوم بعد زوال أثر الصراع الذى مضى وانتهى.. لكن الذى حدث ما نعرفه جميعًا فى مجال السياسة والفكر والدين.. شيء قريب من هذا كله نراه الآن يتشكل أمامنا.. أنظر إلى الاعتقالات والسجون وما تحمله من الإهانة والإذلال.. واقرأ ما تكتبه الصحف ولاحظ التوصيفات.. واسمع إلى فضائيات الأكاذيب والجهل. انظر إلى حالة الهيستيريا التى تصيب جهلاء الساسة وأبناء الدولة العميقة حين تذكر كلمة(مصالحة) أو (حوار) أو(سياسة).. سعار من الهياج يتلبسهم تلبيسًا وعلى الوطن وأبنائه أن يدفعوا ثمن جهلهم بعلم التاريخ وعلم النفس وعلم الأفكار. نصف المصريين على أقل ترجيح يرجون من القائمين على السلطة الآن أن يتمثلوا حقائق التاريخ حقائق الحياة.. بحكمة السياسى وشجاعة الحكيم وعقل المفكر.. لنحفظ المستقبل صحوا وصحيحا وواعدا للوطن والأجيال .. ما عساه يكون الأمر إذا استمر دوران العجلة على نفس الوتيرة وفى نفس الاتجاه ..؟
وحدة الوطن لا تتحقق بالحديد والنار و الإصرار على الممانعة والمعاندة.
رفض التوافق والسياسة سيؤدى إلى انهيارات واسعة وتفكك المجتمع ومؤسساته.. ألا تكفى المعاناة ودورة الآلام طوال العقود الماضية ..هل علينا دائما أن نسلك الطريق الخطأ حتى نهايته قبل أن نتجه إلى الطريق الصحيح ؟ (إننا ننذر إنذار الصديق.. انه لو ظل الحال على هذا.. لشاع اليأس.. واليأس مضلل...