يقولون أن الحرب العالمية الثانية(أكثر الصراعات دموية في التاريخ الإنساني 70 مليون قتيل)بدأت يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى..ذلك أن مرارة الإذلال الذي ذاقه الألمان ما كانت لتبتلع ولا تمر دون أن تكون لها أثارها التي تتناسب مع تلك المرارة والإذلال..اتفاقية( فرساى) التي كتبت عقب الحرب الأولى..لم تكن مجرد (وثيقة) لترتيبات حالة ما بعد حرب لفريقين أحدهما منتصر والأخر منهزم.. كما يحدث دائما في التاريخ.. لكنها كانت بالأساس وثيقة إذلال وهدم ومحو كيان ..للأمة الألمانية تفاصيل مرعبة تذكرها نصوص الوثيقة لا أدري كيف تصور الساسة وقتها قيام (مستقبل) مستقر على أساسها ونحن هنا نتحدث عن أسماء بحجم كلمنصو ولويد و ويلسون وأسماء أخرى مرعبة في التاريخ الحديث..ومن يريد تفاصيل أكثر في هذا المعنى يرجع لما تم في (صالة المرايا)بقصر فرساى في باريس حيث توقيع وثيقة الانتصار في مقطورة (فوش)على نهر السين حيث باريس المتلألئة بأنوار النصر إمعانا في إذلال الجنرالات الألمان المهزومين. سيقوم (هتلر) بعدها بأربع سنوات بانقلاب (1923م) ويفشل.. ثم بعد تسع سنوات وينجح.. ولكن هذه المرة ب (السياسة) وبعد أن يكون قد فهم كثيرا ما كان خافيا عليه في (البيروقراطية الألمانية العتيقة)..وبعد حصوله على الجنسية الألمانية(هتلر نمساوي)وترشحه للانتخابات عام 1932 وعقد اتفاقا مرعبا مع (الدولة العميقة) في ألمانيا (رجال الصناعة وجنرالات الجيش) والذين كانوا قد ضاقوا بالإنهاكات المالية وتعويضات الحرب باتفاقية فرساى... ليعطوه أسرار الدولة ومفتاح دولابها الضخم..شرط أن يتخلص من قوات(العاصفة)التي كانت ضمن تشكيلات الحزب القومي النازي وفعل الرجل وتسلم الحكم..وهذه قصة المقولة الشهيرة عن أن هتلر حكم(بالحديد والنار)الحديد:اتحاد الصناعات..والنار: الجيش. يمر عقدين من الزمان وتتبدل الأطراف في مقطورة(فوش)حيث يصر هتلر أن توقع وثيقة( سقوط باريس)في نفس المكان ..الإذلال والإذلال المتبادل ..حيث السياسة في سراديب القلوب المظلمة.!! حين انتصر الحلفاء في الحرب الثانية كانوا قد استوعبوا الدرس وأوقفوا هذا الهراء التاريخي الأهطل(إذلال المهزوم)ولم يفعلوها ودخلت أوروبا بعدها الحقبة الجميلة لتغنى نشيدها الاتحادي(نشيد الفرح)من أشعار شيلر وألحان بيتهوفن والاثنين ألمان ..إنها دروس التاريخ المتحركة بإيقاعات العقل . في تاريخ حضارتنا نماذج أكثر عمقا ومعنى في مقاربة المهزوم ومعاملته بمنطق الحرص والجمع لا الطرح والقطع والاستئصال...وتأملوا موقف (معاوية) حين دخل عليه (قيس بن سعد)المهزوم..ليبايعه بعد التصالح مع (الحسن بن على) وكان( قيس)من أقوي أنصاره..وكان قد أقسم ألا يكون بينه وبين معاوية إلا رمح وسيف..وحين تدور الدوائر لصالح معاوية ويأتي(قيس)ليبايعه أصر معاوية على أن يبر(قيس)بقسمه فوضع أمامه رمح وسيف.. ليس هذا فقط بل واجلس( الحسن) إلى جواره وكأنه يتلقى البيعة معه.. وحين رفض( قيس) أن يضع يده في يد معاوية ووضعها على فخذه قام معاوية من مكانه وذهب إلية ووضع يده على يده..يقولون أن معاوية كان أعظم الساسة في كل العصور. كنت قد سألت د/خير الدين حسيب المفكر القومي الكبير والناصري العتيد عما قد عساه يكون السبب الحقيقي وراء الإهانات والإذلالات البالغة التي ألحقها الرئيس عبد الناصر بالإخوان في سجون الخمسينيات والستينيات تعذيبا وتقتيلا وتشريدا..ألم يكفه أنه انتصر عليهم ..لماذا لم يكتف بسجنهم وغلق الزنازين عليهم في هدوء واحترام ..؟ ويتفرغ للحكم والسلطة وإدارة مصلح الوطن..وأملا في أن يستصلحهم لنفسه وللوطن ذات يوم ..بعد زوال أثر الصراع الذي كان وانتهى..ليس هذا فقط بل وبعض الوفاء لمن كانوا أقرب الناس منه و إليه..وقد حكى لي ا/فريد عبد الخالق انه كان يدخن السجائر وهو شاب(وكان عضو مكتب إرشاد على فكره..)وحدث أثناء إحدى اللقاءات أن كان عبد الناصر يجلس إلى جواره فمد يده في جيب أ/فريد وأخذ علبة السجائر وسحب منها سيجاره وأعادها ثانية مكانها .. لم يرد على د/حسيب بكلمات واضحة..لكنى من خلال المتابعة والقراءة والسماع ..توصلت إلى سبب مقنع..إذ أن الرجل لم يكن يريد تغييبهم تماما عن الحياة السياسية بسجنهم واعتقالهم..بل كان ينوى إخراجهم ذات يوم قريب(وعبد الناصر كان يعلم جيدا أهمية هذا التنظيم الضخم والصلب لأي عملية تغيير اجتماعي وأخلاقي )ولكن بعد أن يكون قد أعاد تشكيلهم على( ما يريد هو لهم)من تكوين فكرى ونفسي..لا على(ما هم عليه) من تكوين طبيعي وتربوي وتنظيمي وبالطبع لم يحدث ذلك وهيهات أن يحدث...ما حدث هو أن الزنزانة القاسية والتعذيب الشرس أحدثوا (التفاعل الطبيعي)الذي يحدث في النفوس والأفكار حين تتعرض لمثل هذه العواصف العاتية..والتاريخ مليء بالنماذج لمن أراد أن يعتبر..وكان نتيجة هذا التفاعل مدرسة الشهيد سيد قطب بكل عطاؤها وإنتاجها الفكري والتنظيمي والتربوي(وفى ذلك حديث يطول). شيء قريب من هذا كله نراه الآن ونسمعه.. وانظر إلى طريقة الاعتقالات وما تحمله من دلائل الإهانة والإذلال.. تنطق بها الصورة قبل الخبر..واقرأ ما تكتبه الصحف ولاحظ التوصيفات..واسمع إلى فضائيات الرخاوة والجهل .أنت لا تتعامل مع خصم سياسي حتى الأمس القريب كان ولازال شريكا لك في كل شيء.. أنت تتعامل مع عدو خصيم لدود من كوكب زحل ..عدو لا يمكن التعامل معه إلا بالقتل والتصفية.. إن كان له اسم..فالإرهاب وإن كان له مكان.. فالسجن وإن كان له.. ماضي..فالإجرام. وإن كان له مستقبل..فالفناء . انظر إلى حالة الهيستيريا التي تصيب أصدقاءنا اليساريين والعلمانيين وأبناء الدولة العميقة حين تذكر كلمة(مصالحة) أو(حوار)أو(سياسة)أو(مستقبل) سعار من الهياج يتلبسهم تلبيسا ..يقولون شرف الكلمة قبل حريتها..وهؤلاء لا شرف ولا حرية ..حيث يواصل العبيد ملاحقة العبيد عبر ركاما كثيفا من الأوهام الكذوبة. الأخطاء الثلاث للدكتور مرسى و(التيار الإسلامي العريض) حفظناها عن ظهر قلب(إعلان دستور في عشر اسطر / المسارعة في إصدار الدستور/رفض توسيع الحكومة لتمثل التيارات والحركات الثورية)ولا يضاف إلى ذلك العنف في سيناء والذي تشير دراسات كثيرة إلى أنه تخطيط وتنفيذ قوى الثورة المضادة داخليا وخارجيا والتي احتضنت تيارات العنف وأمدتها بالسلاح ولا تزال..ولعل جهات كثيرة لديها معلومات حول ذلك..وأنا ممن يؤمنون وإلى الآن بأن كل ذلك كان من الممكن جدا ولازال معالجته بالسياسة ثم السياسة ثم السياسة..والسير الرأسي و الأفقي في تعميم وتعمير وتقوية معمار(الديمقراطية)كما يليق بعظمة مصر وشعبها وجيشها..أمام ما نراه الآن من تدمير المستقبل كله بهذه الطريقة العمياء الجهولة . ملايين المصريين يرجون من القائمين على السلطة الآن أن يتمثلوا الحقائق التاريخية.. بحكمة السياسي وشجاعة الحكيم وسياسة رجل الدولة ..ولنحفظ المستقبل صحوا وصحيحا وواعدا للوطن والأجيال ..ما عساه يكون الأمر إذا استمر دوران العجلة على نفس الوتيرة وفى نفس الاتجاه ..؟ وهو للأسف المأسوف عكس اتجاه حركة المستقبل بنسبة 100% ..نعم بنسبة 100% ..ولعل الصخب والصريخ حولنا أبعد عن عقولنا وأذاننا مفاتيح هذا المستقبل..والتي هي ببساطة شديدة (الانفتاح على العالم) و(الانكفاء على الثقافة)هذه هي حركة المفاهيم والأفكار في العالم الآن والغرب تحديدا. الحس( الإنساني) العالمي.. أصبح يتسع أكثر وأكثر كل يوم لدى الدنيا والعالم من حولنا.. والمعرفة والثقافة أصبحت اللغة (الإنسانية) الأكثر سماعا وحضورا وقبولا .. وهما وبكل الفخر من أعظم( نقاط القوة)لدى خطاب الإسلام الإصلاحي الحضاري.. الخطاب الإسلامي بالأساس والأصل خطاب عالمي إنساني من جهة وخطاب عقلاني معرفي من جهة أخرى.. العالم الآن يريد من السياسة والحكم والسلطة في _أي مكان_أن تعكس هذه (الرؤية) في القيادة والإدارة والحركة.. بتشويهنا وإقصائنا للإسلاميين في بلادنا نختار السير عكس اتجاه المستقبل .ولنتذكر أن فعل( القوانين الحتمية) أقوى من فعل (الأفراد) مهما كان العسف ومهما كان القهر.. كما يقول علماء الاجتماع السياسي.