يحيرني دائما كقارئ للأدب العربي أو الغربي، أو حتي الفلسفة، التناقض الحاد بين المبدع وما أبدعه من أدب أو فن أو فلسفة.. كأنه في واد وإبداعه في واد آخر! تقرأ شاعرا عظيما كالمتنبي، فتراه يمدح كافور بما فيه وبما ليس فيه، فإذا كف عنه العطاء تحول إلي النقيض وهجاه هجاء مقذعا كما قال عنه: العبد يقرع بالعصا.. والحر يكفيه المروءة! ونري شاعرا عظيما آخر كالبحتري يمتدح الحكام ثم يعود فيقول عكس ماكان يقول عندما تنتهي أيام حكمهم وسطوتهم، بل ربما مدح الحاكم علانية، ومدح خصمه سرا في خطابات إليه في سجنه، حتي يأمن علي حياته وعلي عطائه إن وصل إلي الحكم، أو مكنت له الأيام أن يصل إلي السلطة! والأغرب من ذلك أن نري مفكرا كبيرا كالفيلسوف الألماني نيتشة، الذي كان يقول عن نفسه . إحراق واحتراق.. تلك كانت حياتي! هذا الفيلسوف كان صديقا للفنان الكبير فاجنر، وكتب كثيرا عن عبقرية هذا الفنان، وكيف أنه سيكون سببا في ازدهار الموسيقي الألمانية، ولكنه سرعان ماهاجم هجوما عنيفا وأنه سبب كل الكوارث التي أحاطت بفن الموسيقي الألمانية، ويندهش الإنسان من هذا التحول الخطير في رجل بعقلية نيتشة، وفلسفته التي تدعو إلي القوة ونبذ الضعف، بل كان ينادي في فلسفته بسحق الضعفاء، لأن الحياة ليس فيها مكان لهم، بل إن فلسفته كانت محور النازية التي قادها هتلر وأدت إلي اندلاع الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح الملايين في العالم! ولقد احتار النقاد في موقف هذا الفيلسوف من صديقه الفنان فاجنر، والتناقض الحاد عندما كان يؤيده، وعندما صب غضبه عليه، واكتشف هؤلاء النقاد، أن نيتشة انقلب علي صديقه، لأنه كان يحب زوجة الفنان فاجنر من طرف واحد (كوزيما فاجنر) وعندما فشل في هذا الحب صب غضبه علي زوجها الفنان الكبير! تري هل يمكن تقييم المبدع بإبداعه فقط بغض النظر عن شخصية المبدع وسلوكياته ونظرته إلي الأمور والحياة، أم من خلال الإبداع وشخصية المبدع أيضا؟