فجر مقال الدكتور محمود غزلان، عضو مكتب الإرشاد بجماعة "الإخوان المسلمين"، والذي يؤكد فيه تمسك الجماعة بالسلمية ورفضها الانجرار للعنف، معتبرًا أن ذلك من ثوابت الجماعة الرئيسية التي لاينبغي لأحد أن يتخلى عنها، موجة جدل واسعة في قواعد الجماعة، بعد أن قوبل باعتراضات شديدة من قبل الشباب الرافضين لمنهج السلمية في مواجهة "بطش" السلطة، وهو ما يعكس بوضوح تباينًا كبيرًا في وجهات النظر بين القيادات والشباب الذين يقودون الحراك على الأرض حول طريقة إدارة الصراع. فعلى الرغم من أن مثل هذا الكلام ليس بجديد للمتابع للملف الإخواني، وسبق تناوله مرارًا في سياق التدليل على وجود خلافات عميقة داخل الإخوان، بين تيارين أحدهما يؤمن بالسلمية متمثلاً في قيادات الجماعة؛ وعلى رأسهم الدكتور محمد بديع، مرشد "الإخوان"، الذي أطلق عبارته الشهيرة من منصة "رابعة": "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وتيار الشباب الذي يرفض نهج السلمية ويصفه بالذل والخنوع في مواجهة آلة بطش تقوم على الاعتقال والتعذيب والاعتقال. إلا أن الجديد هذه المرة هو أن الخلاف برز على السطح بقوة وأخذ شكلاً غير معهود عن أسلوب إدارة الخلافات داخل الجماعة، فلم يسبق أن دار سجال بهذا العنف بين أحد القيادات وقواعد الجماعة، كما ظهر جليًا في رد الفعل العنيف على مقال غزلان، والذي جاء بعد اختفائه عن المشهد لمدة عامين، حتى بدا للبعض أن "الإخوان" تواجه أقوى اختبار في تاريخها منذ تأسيسها في عام 1928، ليس على صعيد الحفاظ على بقائها فحسب، في مواجهة الضربات العنيفة التي تعرضت لها على مدار العامين الأخيرين، والتي جعلتها تعيش أكبر محنة في تاريخها، تتجاوز ما تعرضت له في 1954و1965، بل وفي الحفاظ على البناء التنظيمي للجماعة واستمرار تماسكه، بعد بروز انشقاقات داخل الجماعة من قبل قيادات وشباب خلعوا رداء الإخوان وكانوا أكثر شراسة من غيرهم في توجيه الانتقادات ضدها. الخلاف الناشئ بين غزلان وشباب يعكس عمق الأزمة الحالية داخل "الإخوان"، والناجمة عن الضربات الأمنية العنيفة التي تعرضت ولاتزال تتعرض لها، وكانت سببًا في تشتيت شملها؛ فالقيادات أغلبهم قابعون في السجون حاليًا، والباقون يعيشون خارج البلاد هربًا من الملاحقة الأمنية، ولم تعد هناك قيادة واحدة في مصر يمكنها أن تدير الوضع على الأرض، أو على الأقل تكون همزة الوصل مع الشباب الذين يقودون الحراك داخل الجامعات وفي الشوارع. هؤلاء الشباب الذين يتقدمون صفوف المعركة الدائرة، هم من يدفعون الثمن غاليًا، إما من حرياتهم أو من أرواحهم, وهم يطالبون بعودة "الشرعية"، المتمثلة في الرئيس الأسبق محمد مرسي، وهذا ما أبعد القيادات عن ممارسة دورها التقليدي في إدارة دفة الجماعة، والتي أصبحت في أفضل الأحوال تراقب المشهد عن بعد، دون أن يكون لها دور حقيقي يمكنها من السيطرة على ثورة الشباب الغاضب، أو يلجم الفرس الجامح حال تجاوز "الخط الأحمر"، كما ظهر في عمليات العنف التي تبنتها حركات شبابية محسوبة على الجماعة، وأبرزها حركة "العقاب الثوري". في مرحلة ما بعد 3يوليو، نجحت للجماعة في ترميم جزء من شعبيتها المتآكلة، التي وصلت لأدنى مستوياتها في 30يونيو 2013، واكتسبت معها حالة من التعاطف الشعبي الناجم في الأساس عن الغضب الواسع من المجازر الدموية البشعة التي ارتكبت في صفوف أنصار مرسي، خلال فض اعتصام "رابعة" وغيرها من مجازر، وجذبت إلى الإخوان جموع الغاضبين أو المتعاطفين مع الدماء، والذين أصبحوا لاحقًا يشكلون قوة الدفع الحقيقية للمظاهرات اليومية في محافظات مصر. وأعطى هذا التعاطف ظهيرًا قويًا للجماعة في صراعها ضد النظام الحالي، لكن الفائدة منه ليست مطلقة بالنسبة لها، لأن قطاعًا كبيرًا من المنضمين لحركة الاحتجاجات، ليسوا تنظيميين، بمعنى أنهم لم يتربوا على أدبيات الجماعة، وأسلوب "السمع والطاعة"، ما يجعل من السيطرة عليهم أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلاً، لأنهم يتحركون بدافع شخصي وليس في إطار تنظيمي. وأصبح الشباب يشكلون الرقم الأصعب في المعادلة الحالية، والذي لايجرؤ أحد مهما كان أن يتجاوزهم، وهذا ما علمناه مبكرًا، وكان السبب الرئيسي في إفشال مهمة الدكتور محمود بشر، والدكتور عمرو دراج، اللذين أبقى النظام عليهما خارج السجون من أجل التفاوض معهما، بعد أن وجدا أنه من العبث القبول بأية تسويات لاتحظى بقبول هؤلاء الشباب، وأن الأزمة لم تعد مع القيادات بل مع القواعد التي خرجت عن حدود السيطرة. وهي المعضلة التي صنعها النظام بيده، بعد أن اختار اللجوء إلى "العصا الغليظة" ضد الإخوان، والزج بقياداتها إلى السجون دون أن يترك مجالاً لإمكانية الإبقاء على عدد منهم ليكونوا حلقة الوصل مع قادة الحراك بالشارع، وما أدى إلى تفاقم الأزمة، هو التعامل العنيف مع الشباب داخل المعتقلات والسجون، مع تعرضهم للتعذيب والانتهاكات في أبشع صورها، فضلاً عن عمليات القتل، سواءً خلال التصدي للمتظاهرات، أو في التصفية الجسدية، كما حصل مؤخرًا مع الشباب إسلام عطيتو. ما جعل قطاعًا كبيرًا من هؤلاء الشباب يؤمن بعدم جدوى السلمية، ويعتبر الكلام عنها من قبيل العبث، وهو ما تأكد لي من خلال حوار مع أحد هؤلاء المؤمنين بنهج العنف ورفع السلاح ضد النظام، استنتجت من خلاله أننا مقبلون على الدخول في موجة عنف دموية، وأن ذلك أصبحت مسألة وقت ليس إلا، إذا لم نسارع إلى نزع فتيل الغضب من نفوس هؤلاء الشباب، خاصة وأنهم لايزالون يتذكرون أمام عيونهم مشهد قتل أصدقائهم برصاص الشرطة، ويرفضون تمامًا الصمت عن الانتهاكات التي ارتكبت بحق بعض الفتيات أثناء احتجازهن. كل هذا شكل فتيل القنبلة التي انفجرت في وجه غزلان بعد أن نشر مقالاً بمناسبة مرور 87عامًا على تأسيس الجماعة، قال فيه: "نؤكد أن السلمية ونبذ العنف من ثوابتنا التي لن نحيد عنها أو نفرط فيها، وهى الخيار الأصعب لكنه الأوفق بإذن الله، وأنها كانت أحد أسباب بقائنا وقوتنا طيلة ما يقرب من تسعين عامًا وكانت من أسباب التفاف الناس حولنا، وتعاطفهم معنا وتأييدنا في خمسة انتخابات عامة في مصر على مدى سنتين". وانتقد مطالبة بعض شباب الإخوان بالتخلي عن السلمية مع انتهاكات الشرطة، وقال إن عددًا من أفراد الجماعة "تفلتوا من ثوابت لدى الإخوان من بينها السلمية، ونبذ العنف" وأضاف: "ليس الناس على شاكلة واحدة، فمنهم من يؤمن بهذه الثوابت في الرخاء، ويظل يدعو إليها ويثنى عليها، حتى إذا وقع في محنة، أو أصابته مصيبة كبيرة، راح ينفلت من أحد تلك الثوابت أو بعضها أو منها كلها، ظانًا أنها هي سبب المحنة، وأنه بتخليه عن هذا الثابت أو ذاك سيخرج منها سريعًا". وكانت العبارات السابقة التي تؤكد تمسك الجماعة بنهج السلمية كفيلة بإعلان الحرب على غزلان في سلسلة من المقالات نشرها موقع "نافذة مصر"، الذي يتبع جماعة "الإخوان"، والتي يرى أصحابها أن قيادات الجماعة ينتهجون منهجاً متخاذلاً، مؤكدين أن "الثورة التي في الشوارع الآن والدم الذي سال تجاوز معنى السلمية المنبطحة"، وأن "مسار التغيير السلمي الديمقراطي خدعة كبيرة، وأن الحقوق لا توهب، بل تنتزع بالقوة والجهاد، وأن "الديمقراطية هي صنم عجوة طالما عبده بنو قومنا من الانقلابيين فلما جاعوا أكلوه".