هناك مشكلة حقيقية عند الإسلاميين ، بكل أطيافهم ، في إدارة الحوار ، بل يمكن القول باطمئنان كامل أن تلك مشكلة ثقافية عامة في مصر ، تشمل الإسلاميين وغيرهم ، لا أحد يطيق النقد ، ولا أحد يفترض أن يلحظ الآخرون به عيبا ما ، ولا أحد يتصور أن يعقب عليه أحد بما يراه خطأ ، يضاف إلى ذلك ظاهرة الحوار بطريقة التصيد لدى المختلفين ، وهو ما يأخذ الحوار بعيدا عن جادة الصواب والإيجابية والسداد إلى مجرد انتهاز فرص للنيل من المخالف أو التشهير به ، وفي الغالب تضيع الحقائق وسط هذه المتاهة التي تجعل من "سوء الظن" المناخ العام لكل ما يتصل بالحوار . لاحظت كل ذلك في التعقيبات والجدل الذي ورد على الرسالة التي نشرتها بالأمس لأحد أصدقاء المصريين من المقيمين في الولاياتالمتحدة ، وغني عن البيان أن نشري لرسالة لا يعني موافقة صاحبها في رأيه ، فقد تتفق معه وقد تختلف ، ولكن الشرط أن تكون الرسالة حاملة لرؤية متماسكة أو لها وجه من المعقولية وتلتزم بأدب الحوار ، ثم للجميع أن يختلفوا معها أو يتفقوا ، كليا أو جزئيا ، ومعظم القضايا التي طرحها صاحب الرسالة فيها تنوع اجتهادي داخل التيار السلفي نفسه ، وقد حضرت بنفسي على سبيل المثال حوارا مثيرا ورائعا بين قيادات سلفية من دول عربية مختلفة منها مصر ، كان مداره مسألة جواز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر ، ما بين مجيز لذلك ومانع ، وكانت قناعتي العلمية وما زالت في هذه المسألة تميل إلى المنع لظهور دليله ، ولكن الحوار الذي استمعت إليه واستمتعت به للغاية كان بالغ الخصوبة والتنوع والذكاء والاستحضار لنصوص من السنة ومتخم باللمحات الفقهية والأصولية الراقية التي استعرضها كل طرف ، وجميعهم سلفيون . وقراء هذه الزاوية بعضهم جديد وبعضهم ينسى من طول الوقت ، فقد سبق ونشرت في هذه الزاوية رسائل لقراء فيها ما يأخذونه بشدة على جماعة الإخوان المسلمين ، وأخرى تتعلق بالجماعة الإسلامية وغيرها متعلقة بالمؤسسة الدينية سواء الأزهر أو الأوقاف أو الإفتاء ، فالأمر لا يتعلق بتيار أو جماعة أو مؤسسة ، وينبغي أن تكون لدينا سعة صدر في تحمل الخلاف والصبر عليه ، لأن إدارة الخلاف هو أحد مقومات النجاح الأساسية لأي رسالة فكرية أو دينية أو سياسية ، بل هي الشرط لنجاح أي نشاط إنساني يتعدى الفردية ، ومعظم التصدعات والتشققات في الحالة الإسلامية يكون سببها الأساس هو غياب القدرة على إدارة الخلاف ، فكل خلاف جدي هو مشروع افتراق ، ولذلك تمنيت دائما أن يكون "فقه الخلاف" أحد أركان المنهج التربوي عند الإسلاميين ، وكنت قد نشرت كتابا قبل حوالي عشرين عاما بعنوان "فقه الخلاف" لقناعتي الشديدة بخطورة هذه المسألة ، وأن تأملها واستيعابها لا يتوقف على "أدب" الاختلاف ، مع عظم شأنه ، ولكن الأمر يحتاج إلى "فقه" للخلاف . التيار السلفي بشكل خاص ، بوصفه التيار الأكثر حضورا في المجتمع ، والأكثر تأثيرا في صياغة البنية الأخلاقية والسلوكية والدينية لدى ملايين المواطنين ، وهو أيضا التيار المرشح لإنجاز حضور سياسي كبير في الانتخابات المقبلة رغم عدم سابق انشغاله بالسياسة ، هذا التيار يحتاج بشدة إلى أن ينظر إلى ذاته من الخارج ، بمعنى أن يستمع إلى رأي الآخرين فيه ، بل ويطلب بنفسه النقد من أهل العدل والمروءة لكي يستعين بذلك النقد الهادئ على تقويم المسيرة وتسديدها وتلافي أخطائها ، فهذا مما ينتج عنه دعم النجاح والحضور وتحقيق أعظم نتيجة من الجهد الدعوي ، ولذلك كان السلف الصالح يقولون "رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي" ، فالنقد أحيانا يكون "هدية" حقيقية تساعد الإنسان أو الجماعة أو التيار على تأمل أوجه النقص أو الخطأ أو ضعف الفاعلية عنده ، بما يعينه على علاج ذلك ، وهذا لن يحدث إذا ظل الإنسان ينظر إلى ذاته من خلال ذاته ، أو ينظر التيار أو الحزب أو الجماعة إلى نفسه من خلال محبيه وأنصاره فقط . والحقيقة التي لا أجامل فيها أحدا ، أن التيار السلفي في مصر حقق خلال وقت قصير طفرات كبيرة في استيعاب الواقع الجديد بصورة لم يكن أحد يتوقعها ، ووضح أن منهجه يمتلك من المرونة ما يساعده على ذلك ، فلم يكن أحد قبل أشهر قليلة يتصور أن يقدم السلفيون في مصر على تشكيل حزب سياسي ، ولكنهم فعلوا ذلك ، ليس من خلال حزب واحد ، بل حوالي سبعة أحزاب حتى الآن بعضها في الطريق للظهور ، ولم يكن أحد يتصور أن يدفع السلفيون المرأة إلى الاشتغال بالسياسة والعمل السياسي ، فعلوها ، ولم يكن أحد يتصور أن ينخرط السلفيون في العملية الديمقراطية ويخوضوا انتخابات البرلمان ، وفعلوا ذلك ، ولم يكن أحد يتصور أن يشارك السلفيون في مظاهرات شعبية لتحقيق مطالب إصلاحية أو حمايتها ، ففوجئنا بهم يقودون مظاهرات مليونية ، وكل ذلك تم بدون أي ارتباك في "المنهج" وإنما بتفعيل أدوات المنهج الاجتهادية للتعامل مع واقع جديد بموازنات جديدة للمصالح والمفاسد ، صحيح أنها مرت بمخاض علمي صعب لا يدركه كثيرون ، وما زالت تعاني بعضه ، لكن في المحصلة النهائية ، نجح التيار السلفي في تجاوز عقبات كثيرة والاندماج بقوة في صياغة مستقبل الوطن . وكان اندماج السلفيين في الحياة السياسية مدار حوار لي مع باحث يساري شهير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أثناء رحلة سفر ، وفوجئت به يوافقني الرأي على أن اندماج السلفيين في العمل السياسي سيدعم المشروع الديمقراطي في مصر ، بيد أن لذلك حديثا آخر ... [email protected]