حتى كتابة هذه السطور فإن كل المؤشرات تشير إلى فوز حركة النهضة الإسلامية بأول انتخابات تجرى فى تونس عقب الإطاحة بزين العابدين بن على بنسب قد تصل إلى حوالى 50% من إجمالى عدد مقاعد المجلس التأسيسي وهو ما يعنى أن الشعب التونسى قد اختار بوضوح وصراحة الانحياز إلى عمقه العقدى والأخلاقى وأن المشروع العلمانى التغريبى قد منى بهزيمة جديدة فى أحد معاقله التقليدية إذ ظلت تونس مثالاً يداعب خيال العلمانيين عندنا على أساس أنها قد قطعت شوطاً كبيراً فى علمنة المجتمع حتى إن أحدهم لم يجد غضاضة فى أن يصرح عقب رجوعه من تونس منذ فترة بأن أكثر ما أسعده فى زيارته لتونس عدم رؤية امرأة محجبة وتغاضى أن ذلك كان بقوة السلاح وقهر السلطة لا بقناعة داخلية ذاتية . المشروع العلمانى مشروع فاشل لم يستطع أن يتواجد فى المجتمعات الإسلامية إلا فى ظل تحالف غير شريف مع الديكتاتوريات العربية والإسلامية بحيث لعبت النخب العلمانية دور المحلل لاغتصاب هذه الديكتاتوريات للسلطة ومصادرة حق الشعوب فى الاختيار والمساءلة مقابل أن أطلقت الأخيرة يد تلك النخب لتسيطر على المفاصل الثقافية والإعلامية والتعليمية التى تساهم فى تشكيل الوعى والتوجه إضافة إلى استعمال اليد الغليظة فى مواجهة الإسلاميين بحيث تخلو الساحة للنخب العلمانية .. هذا ما حدث تقريباً فى كل البلاد العربية والإسلامية على مدار العقود الماضية وهذه تركيا وتونس ومصر وليبيا وسوريا وغيرهم خير شاهد على ذلك . وبالرغم من كل هذا فشلت النخب العلمانية فى علمنة المجتمعات الإسلامية حتى وهى متفردة بالجماهير دون منافس أيضاً فشلت بل وقادت العالم العربى والإسلامى من فشل إلى نظيره وضاعت بلاد العرب وثرواتها وكرامتها فى ظل التسلط العلمانى ولم يستطع المشروع العلمانى أن يقيم نهضة حقيقية بل على العكس وقف كعائق أساسى أمام مشاريع النهضة إذ حاول أن يجذب المجتمعات العربية والإسلامية بعيداً عن عمقها الحضارى والعقائدى فتاهت وتشعبت بها السبل وكانت النتيجة أننا بعد حوالى قرن من الغزو العلمانى السلطوى لبلادنا لم نراوح مكاننا وتذيلنا قائمة الأمم والدول . فشل العلمانية لم يكن على مستوى الفكرة وفقط بل تعداه إلى فشل ذريع فى استنبات برامج حقيقية تلبى احتياجات المواطن العادى وتواجه تحدياته فقد تفرغت النخب العلمانية لتوزيع الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال وظلت " الفزاعة " أحد أبرز الآليات المهمة فى برامجهم وهى آلية تصلح لبرامج التوك الشو ولكن لا تبنى أمة ولا تصلح وطناً فمن يتابع تصريحات النخب العلمانية فى تونس عقب الشعور بالهزيمة يجد أنها لاتختلف كثيراً عن التى نسمعها كل يوم عندما يرخى الليل سدوله . حيث عبروا عن خوفهم على حقوق المرأة وقيم الحداثة والحريات الشخصية.. إلخ . والأمر اللافت فى الانتخابات التونسية ارتفاع نسبة تصويت التونسيين الذين يعيشون خارج تونس لصالح حركة النهضة ومن المعروف أن أغلبهم يعيشون فى الدول الأوروبية حيث المحاضن الطبيعية للعلمانية والتى لم تستطع أن تأخذهم بعيداً عن عقيدتهم وحضارتهم وهذا ما يؤكد أن الفكرة العلمانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسياقها المجتمعى والتاريخى بل وارتباطها بالشخصية الأوروبية على وجه الخصوص لأسباب يضيق المقام عن ذكرها وينفى عنها صفة الكونية التى حاولت من خلالها النخب العلمانية تمرير مشروعها . العلمانية اليوم تتلقى هزيمة جديدة فى أحد معاقلها الرئيسية من المفترض أن تدفعها لمراجعة أفكارها وأطروحاتها وهو أمر أشك فيه كثيراً . ورغم كل هذا فإننا لا يجب أن ننسى الدور الذى لعبه الشيخ راشد الغنوشى فى التمهيد لهذا الانتصار وهو ما يجب أن نلقى عليه الضوء فى مقال قادم بإذن الله . [email protected]