شعار "أنا شارلي" غزا العالم، وكان الأبرز في المظاهرات الحاشدة بباريس الأحد الماضي تعبيرا عن التضامن مع الصحيفة الأسبوعية الساخرة "شارلي إبدو". كتبت مقالين متتالين أدين فيهما الجريمة، وأدين أيضا إساءات الصحيفة ضد الإسلام ورموزه، وهو أمر لا يمكن إدراجه ضمن بند حرية الرأي والتعبير، لكن مواجهة ذلك لا يكون بالرصاص أبدا على طريقة الأخوين "كواشي". تضامني وشعاري هو: "لست شارلي" .. لكني ضد الإرهاب. "لست شارلي" .. لكني مع الحرية. "لست شارلي" .. لكني مع احترام الأديان. الجرائم التي وقعت أزعجت فرنسا، وأزعجت العالم معها، فالمشهد مؤلم حقا، لكن مع ذلك تبرز فيه تفاصيل تضحيات وبطولات قام بها مسلمون أيضا، ما يعني أن الجريمة ليست قرينة المسلم، وأن الإرهاب ليس ملازما له، بل الجريمة هي فعل يمارسها أي شخص غير منضبط فكريا وسلوكيا بغض النظر عن معتقده ولونه وجنسه ومكانه، ونتابع ونقرأ عن جرائم بشعة تحدث في أوروبا وأمريكا ومختلف بقاع الأرض، ويحدث أيضا إطلاق رصاص عشوائي على طلبة مدارس ومعاهد وجمهور عادي من مجرمين وإرهابيين غير مسلمين فيسقط العشرات قتلى ومصابين. والحكومات الغربية نفسها تطلق حروبا في بلاد العرب والمسلمين فيسقط الألوف وليس المئات، ويتضح في النهاية أنها كانت حروبا عبثية، وأننا صرنا ميادين رماية لتفريغ حماقات بعض القادة، وتجريب أسلحة فتاكة جديدة كما حدث في أفغانستان والعراق، والنتيجة أنه لا ديمقراطية تحققت، ولا رفاهية معيشية حصلت، ولا تم القضاء على الاستبداد، بل تتسبب تلك الحروب في تفشي الإرهاب، وخلق حواضن جديدة له، وتوفير ذرائع لتمدده، والكارثة أن هذه الحروب تنتج استبدادا أشد ، وإسرائيل نفسها هي مشروع استعماري غربي تم زرعه في فلسطين في عمق بلاد العرب، وجرائمها المتواصلة وسحقها للشعب الفلسطيني أكبر عار على الغرب الصامت عنها، بل الداعم والمؤيد لها ولإرهابها الرسمي، وهذا وحده كاف لجعل العنف مزدهرا باستمرار، وأحمدي كوليبالي برر في شريط الفيديو احتجازه ليهود رهائن في المتجر بممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين إلى جانب سبب خاص به وهو التدخل الفرنسي في بلاده مالي. الغرب يجب أن يتدارس نصف قرن وأكثر من جرائم صنيعته إسرائيل ومن سياساته تجاه العرب والمسلمين ويقوم بتقييم كل ذلك ويسعى لإعادة التوازن والعدل إلى موازينه، ويبادر بحل الأزمات التي تسبب فيها، ويجفف بحور الدماء التي حفرها، وهذا سيكون علاجا مهما لمحاصرة الإرهاب والقضاء عليه عنده وعندنا، كما عليه ألا يواصل دعم الاستبداد والطغيان لأن بيئة سياسية مغلقة ظالمة هي تربة نموذجية لنمو التطرف ودفع الشباب إلى العنف كما هو حاصل اليوم مع "داعش" وغيرها من تنظيمات التطرف، فكل من لا يجد مجالا للعمل الآمن في بلاده يلجا للانتقام عبر الانضمام لصفوف هذه التنظيمات. برز في جرائم باريس الشرطي أحمد مرابط، وهو مغربي الجنسية، وقد ظهر في الفيديو طريح الأرض على الرصيف أمام مبنى الصحيفة بعد إصابته برصاصة في قدمه، ثم اقترب منه أحد الأخوين الشقيين "كواشي" وأطلق رصاصة على رأسه فأرداه قتيلا، وهو قُتل بالفعل، ولم يكن الفيديو مسرحية كما يروج البعض على مواقع التواصل ممن يبررون للجريمة، وهذا الشرطي مسلم، ولم يشفع له دينه استهدافه من قاتله المسلم أيضا، فالإرهابيون المنتسبون للإسلام أكثر ضحاياهم من المسلمين، الشرطي الراحل مخلص لدينه ولقيم فرنسا في نفس الوقت، وقد لبى نداء الواجب وسارع بالذهاب لمبنى الصحيفة عندما سمع إطلاق الرصاص، لكنه لم يستطع بمسدسه مواجهة الأخوين المسلحين بالبنادق. هناك ضحية مسلم آخر داخل الصحيفة، وهو الجزائري مصطفة أوراد، وقد هاجر إلى فرنسا في الثمانينيات، ونال الجنسية قبل أشهر قليلة، ولديه طفلة صغيرة، وكان يقوم بالتصحيح اللغوي في الصحيفة، ومن العجب أن يلومه البعض لأنه يعمل في صحيفة تسب للإسلام ، هذا منطق مغلوط، لأن عمله فيها لا يعني موافقته على خطها التحريري، وبالقياس ذاته نقول لمن يلومونه أنه لا يجب عليهم أن يستفيدوا من المنتج الحضاري الغربي لأنه من البلاد التي تحتضن وسائل إعلام ومنصات فكرية وثقافية عديدة تسب الإسلام، فهل يوافقون؟. ومن النقاط المضيئة أيضا لسانا باتيلي العامل المسلم في المتجر اليهودي الذي قام بإخفاء 15 زبونا يهوديا أو 6 في رواية أخرى في ثلاجة لحوم وتواصل مع الشرطة عبر هاتفه المحمول وكان دوره مهما في عملية اقتحام المتجر، وبسبب إنسانيته وشجاعته لم يمسس هؤلاء الأذى، والمفارقة أنه من مالي نفس البلد الذي يتحدر منه الخاطف كوليبالي. لسانا قال عن نفسه إنه مسلم مؤمن ويصلي والهجوم يؤلمه جدا وعلاقته باليهود جيدة جدا، وهو حزين على مقتل زميله اليهودي يوهن كوهن. جزائريان يقتلان جزائريا مثلهما، وجارا مغربيا، ومالي ينقذ يهودا فرنسيين من قبضة مالي قاتل، أليس ذلك أمرا قدريا مدهشا يثبت مانقوله بأن المجرم والإرهابي لا دين ولا معتقد له؟. حسنا أن فرنسا الرسمية فصلت بين الجرائم، وبين الجالية المسلمة، ولم توجه أي إدانة لها، والجالية تفاعلت وأدانت وشاركت في المظاهرات، كما شاركت حكومات عربية وإسلامية عبر تمثيل متنوع، لكن في النهاية ولتجفيف منابع التطرف لابد من إنصاف المسلمين، ومعاملتهم باعتبارهم مواطنين مكتملي الحقوق والواجبات، فهم يعانون من التمييز، وعدم المساواة، والعنصرية، والكراهية، والتهميش، ورغم أن أعدادهم بالملايين، إلا أنهم لا ينالون قليلا مما يناله اليهود من الحقوق وهم الأقل عددا بمراحل. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.