سيمر زمن طويل حتى يدرك الناس عندنا جوهر الحقيقة فى علاقة الغرب بالشرق وأن تلك العلاقة.. كان الإسلام ومازال وسيكون . هو مركز الدائرة فيها وقلبها بل ومحيط هذه الدائرة أيضًا.. حتى وإن تقولت الأقاويل التى تختزل المسألة فى بعض المصالح والمنافع.. ليكن ذلك ..فالمصالح والمنافع موجودة مع وجود الإنسان فى كل زمان ومكان وهذه المصالح لا تعيش فى الفراغ ولا تتحرك على الأرض هكذا بلا بشر يحملونها.. بشر بقيم وضوابط وشرائع وأحكام وتراث وتاريخ وحضارة ذات آداب وأخلاقيات وثقافات حاكمة وجامعة . ما يحاول الخبثاء والخادعون قوله وفعله هو تجريد دنيا المصالح هذه(بشرًا وأرضًا) من القيم والضوابط والأحكام والمثل العليا التى يحياها البشر.. وهو ما لا يمكن تحققه فى الحقيقة وما كان يومًا واقعًا على الأرض.. بخاصة حينما تنزل على البشر دين به من الشمولية والكلية ما يستوعب حياة الإنسان من حيث هو فرد فى بيته ومن حيث هو فرد فى مجتمع وأمة .. الشرق هو (البلاد المسلمة التى اختلفت جذورها وعناصرها ولغاتها فى الماضى ثم ذابت كليًا تقريبًا فى بوتقة الإسلام وعالميته الرحبة وهى إلى الآن رغم كل التدخلات الأجنبية والتأثرات الخارجية مجتمعات متماسكة قوية سمات ثقافتها وحضارتها وتقاليدها مستمدة من معين واحد هو(الإسلام) .. منذ أربعة عشر قرنًا والشرق هو أرض الإسلام فيه ولد إيمان المسلمين وعلى أرضه صيغت للمرة الأولى الحضارة الإسلامية.. وكان حكامه بعقيدتهم التى حملوها ولغتهم التى نشروها هى لغة قرآنهم وهى الأساس والوسيلة لحضارتهم .. والتى أسهم فى بنائها أناس من شعوب متعددة.. لكنها كانت تنشر باللغة العربية وتسكب فى إطار الأفكار الإسلامية وتوزن بالمعايير الإسلامية .. إذا كان الدين يعنى فى الغرب نظام (إيمان وعبادة) ويتميز عن الولاء الوطنى والسياسى فهو بالنسبة للشرق أكثر من ذلك بكثير .. فالإسلام يشمل فى معناه ما تعنيه فى الغرب كلمة(الحضارة).. ولجميع الشعوب الإسلامية قاسم مشترك واحد من الإيمان والولاء للإسلام.. يطبعها بطابع هوية واحدة يبقى ويدوم حتى ولو فقد الإيمان وأهملت الشريعة.. والوحدة التى تجمع هذه الشعوب على قاسمها المشترك هى عقيدة توحيد الله والقرآن والسنة والنظام الماهر المعقد المبنى على نظرية الإسلام الدينية وعلى الفقه الذى استند إليه فتعاليم الإسلام المنبعثة من منابعه الأصلية تضم إضافة إلى العقيدة والعبادة تشريعًا يمكن تسميته بلغة الغرب الحقوق المدنية والحقوق الجنائية وحتى الحقوق الدستورية وكل مسلم يعتقد أن هذه التشريعات لها سلطة وقوة التشريعات الاعتقادية والعبادية .. الشرق دائمًا كان مركزًا للحضارات وحاضن الأديان السماوية وكان موطن أول مجتمع عالمى ذى ثقافة بينية بكل ما للكلمتين من معنى وكان مركز إنجازات عملاقة فى كل حقل من حقول العلوم والثقافة والفنون وكان قاعدة لإمبراطوريات متتالية شاسعة وعظيمة ). أنهى كلام برنارد لويس.. وما أدراك من هو برنارد .. هو أخطر عقل موجود فى الوعى الاستراتيجى الغربى بكل ما يتعلق بالشرق وأهله وناسه وحضارته.. والمدهش بل والمرعب أنه قال هذا الكلام سنة 1965م فى كتاب بعنوان (الغرب والشرق الأوسط) .. برنارد لويس هو الكاهن الأعظم لمدرسة خرج منها فوكوياما وهنتنجتون ولاحقًا توماس فريدمان ومارتن انديك وأسماء كثيرة تعى جيدًا ما هى حقيقة علاقة الغرب بالشرق.. وإن تقولت كل الأقاويل.. وتمثلت كل الأماثيل بعكس ذلك .. برنارد لويس يهودى ولد بلندن 1916 حصل على درجة الليسانس فى التاريخ من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن عام 1936 والدكتوراه فى تاريخ الإسلام من نفس المدرسة عام 1939 وكان موضوع رسالته عن الطائفة الإسماعيلية.. ترك العمل بالجامعة خلال سنوات الحرب ليلتحق بخدمة( المخابرات البريطانية) وبعد الحرب..عاد للعمل بالجامعة حتى عام 1947م . ولكن صلته بالمخابرات البريطانية لم تنقطع أبدًا وظل مرجعاً مهمًا يستشار فى كل ما اتصل بشئون الشرق الأوسط . وبعد أفول نجم الهيمنة البريطانية فى الشرق الأوسط وتسلم الولاياتالمتحدة كل المفاتيح.. باعتبارها الوريث الطبيعى لحماية الحضارة الغربية فى المنطقة وجد برنارد لويس أن مكانه الطبيعى هناك فى (الولاياتالمتحدة) حيث مركز التأثير فى صناعة القرار الغربى فى الشرق الأوسط وخاصة أن صهيونية الرجل لا جدال حولها.. ومن ثم جاء انتقاله إلى جامعة برنستون عام 1974 أمرًا منطقيًا بعدما ترك قسم الشرق الأدنى بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن . فى أمريكا صال وجال وصهلل وجلجل.. كما يقولون.. فتولى برنارد لويس ريادة حقل دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية بالجامعات الأمريكية. يقولون عنه(حجة ومرجعاً فى الشئون الإسلامية والشرق أوسطية لا غنى عنها لصانع القرار الغربى). نشر كتاباً عن ( تركيا الحديثة) يقصد الكمالية وآخر عن(تكوين الشرق الأوسط الحديث) ثم كتاب(تعدد الهويات فى الشرق الأوسط) وهو من أخطر كتبه ويعتمد عليه العقل السياسى الغربى اعتمادًا كبيرًا.. حتى يومنا هذا . برنارد لويس يرى أن الدول العربية هى الأكثر تعرضًا لخطر التفكك وأنها ليست الوحيدة فالاتجاه نحو التفكك سيزداد بتشجيع من الشعور الأثنى والشعور الطائفى المتناميين وقد تسربت الفكرة المغرية بحق تقرير المصير لى عدد من الأقليات الاثنية التى لم تعد تكتفى بوضعها السابق. ويرى أيضًا أن النفط لا بد وأن ينضب فى يوم من الأيام وهو المصدر الأساسى للثروة فى الشرق الأوسط الذى لم تعد الزراعة التى تعتمد على التربة والماء تكفيه وهو لا يملك السهول الشاسعة التى تعتمد على الأنهار.. وستدور حول الأنهار مشاكل تقنية وسياسية . و يرى أن الصراع فى المنطقة سيمتد ويطول.. فأنهار العالم العربى مثل النيل والفرات ودجلة والأردن ستشهد صراعات مع الآخرين . نشر عام 1992م مقالة فى مجلة( الفورين افيرز ) ذكر فيها ..إن غالبية دول الشرق الأوسط مصطنعة وحديثة التكوين وهى مكشوفة.(وإذا ما تم إضعاف السلطة المركزية إلى الحد الكافي) فليس هناك (مجتمع مدني) حقيقى يضمن تماسك الكيان السياسى للدولة ولا شعور حقيقي( بالهوية الوطنية المشتركة) أو ولاء للدولة الأمة. وفى هذا الحال تتفكك (الدولة) مثلما هو حاصل فى لبنان إلى فوضى من الطوائف والمناطق والأحزاب المتصارعة.
الكلام يطول حول نظرة العقل الاستراتيجى الغربى بصفة عامة ..للشرق وما يقوله برنارد لويس هو أهم ما أنتجه هذه العقل.. والخطورة الكامنة فى الموضوع أن برنارد ومدرسته لم يكتفوا بالتواجد فى الحقل العلمى و الأكاديمى فقط .. بل موجودون وبقوة تأثير هائلة داخل الحقل السياسى والثقافى(الإعلامى والفنى).. والأخطر هو امتداداتهم التنظيمية والمعرفية (داخل بيوتنا).. ممن يرددون نفس المقولات وإن بصيغ أخف وأخدع ..
انا لا أعيب على برنارد ومريديه وتلاميذه كونهم خادعين فى مقولاتهم وأطروحاتهم (راجع كتابه الإسلام والحداثة ..اين الخلل؟) ..هذا الكتاب على فكره مقرر فى (الأكاديمية العسكرية الأمريكية) ويدرسه الضباط المبعوثين من البلاد العربية والإسلامية !!!؟؟وهم الضباط المرشحون بقوة لتولى (الزمام) حين تنتهى بعثاتهم ويعودون الى أوطانهم... أنا أعيب على من أخضع عقله ووعيه لهذه الأفكار وتلك المقولات بل وأمن بها واعتقدها .. أعيب على من ترك الناس غارقين فى جهلهم وضحالتهم ..واهتم فقط (بحشدهم) فى صفوف تهتف وتصيح ..بل ويساوم بهم أمام (طموحاته) ونزوعه البائس إلى أمجاده البائسة .. خواء فى خواء . ويا حسرتنا عما أنجلى ..وينجلى..