الإسلام ورؤى ما بعد صراع الحضارات : ماذا تبقى من أحداث 11/9؟
* د. ريتا فرج
بعد مرور ثمانية أعوام على أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وما ترتب عليها من تحولات في المشهد العالمي عموماً والشرق أوسطي خصوصاً، وما أنتجته من تبدلات تشي بارتفاع وتيرة العنف الإسلاموي، وبعد المتغيرات التي أعقبت حرب جورجيا الخاطفة، وما تلاها من تكهنات حول صحوة روسيا البوتينية، ماذا تبقى من الخلاصات الداعية لصدام الحضارات التي شكلت إحدى السياقات النظرية للتصادم الحتمي بين الغرب والإسلام؟
نظرياً خلص صموئيل هنتغتون في أطروحته الشهيرة 'صراع الحضارات' الصادرة عام 1996 الى أن النزاعات بين الشعوب والأمم ستتخذ بعداً ثقافياً وحضارياً تحدد على أساسه العلاقة بين الأديان والقوميات والدول، والفرضية الأساسية التي يمكن إستنباطها من أفكاره تكشف عن التأسيس لثقافات عالمية حدّية، تتحارب خلالها ومعها الديانات الابراهيمية الثلاث، يضاف اليها البوذية، والأهم من هذا كله وضعه الإسلام في موقع الصدارة داخل عمليه النزاع المفترضة، على أساس أنه يمتلك إرثاً تاريخياً عنفياً مما يخوله الدخول في الصِدام بأسلوب طوعي.
إن المفاهيم التي ينطلق منها هنتغتون تجد جذورها في الفلسفة الغربية القائمة على ثنائية الاضداد، والتي تمهد بدورها لمقولة المركزية الاوروبية، على اعتبار الغرب يمثل الأنموذج المثالي الذي يجب أن يحتذى من قبل الدوائر الحضارية الاخرى؛ وبصرف النظر عن جدلية التقدم والتأخر والمعايير المحددة لقياس معدلاتها، لا بد من التأكيد على أن إستيهام عالم تغزوه الحروب الدينية أو الفكرية فيه الكثير من المغالطات، سواء في تصنيف نوعية الصراع أم لجهة إستحضار المُتخيل المادي والرمزي من قبل الأقطاب المتنازعة والمقصود هنا الغرب والإسلام، والذي يحتاج الى مراجعات نقدية قد تخفف من حالة التوتر والاحتدام من حيث الدرجة وليس النوع.
بلا شك أن المعطى الديني في الوقت الراهن يشهد حضوراً نوعياً لا يمكن تجاهله في المجالين الإسلامي والغربي، ويوَّظف بأسلوب إنتقائي بغية تبرير الأهداف السياسية والاقتصادية الآخذة في الاتساع؛ مما يعني أن إتجاهات السياسة الدولية مرشحة لمزيد من الفوضى والاضطراب، وبالتالي فالاسلام الدين التوحيدي، والعالمي، والدنيوي، سيستنزف مراراً وتكراراً في لعبة الصراعات الدولية، التي تسمى وفقاً لأدبيات هنتغتون وورثته من المحافظين الجدد/ القدامى، وأسياد مراكز البحوث الأمريكية من بينهم دانييل بايبس مؤطر نظرية الحرب العالمية الرابعة، ومارتن كريمر الذي أحاط العقل الأمريكي برهاب التهديد الإسلامي، تسمى صراعاً حضارياً ووجودياً، في حين أنها معركة على الموارد بالمعنى الاقتصادي في عالم يشهد إنقساماً حاداً بين شماله وجنوبه.
الى ذلك تكشف القراءة الموضوعية لخلاصات برنارد لويس عميد الاستشراق الحديث أنه أول من دعا الى مسألة القطيعة بين الحضارات التي ظهرت في كتابه الموسوم جذور الغضب الإسلامي عام 1990، ويرى لويس 'أن الإسلام لا يعطي شيئاً ذي نفع، والضغينة تتحول الى غضب ضد الغرب، لكن النصر الأمريكي مؤكد كذلك لبننة (المقصود الحرب الاهلية اللبنانية) الشرق الأوسط مع تقوية إسرائيل'.
ويروّج لويس الى أن الإسلام قاصر ومعارض للقيم العالمية، والسبب يعود الى أن المسلمين لديهم مشكلة في قبول الديمقراطية، لعوامل مختلفة أهمها أن الدين الإسلامي لا يملك المقومات البنيوية التي تدفعه لمواكبة الحداثة بمعناها السياسي والاجتماعي.
وعلى الرغم من الخطاب السائد حول اعتبار هنتغتون مؤسس فرضية صراع الحضارات، إلاَّ أن لويس سبقه الى صياغتها منذ تفكك المنظومة الشيوعية، حين اعتبر الإسلام العدو الجديد للديمقراطية الغربية.
إن المقولات التي يدعو اليها الاستشراق الأمريكي حول حتمية الصراع بين الإسلام والغرب، تؤكد على أن صنّاع القرار في واشنطن لا يمكنهم بناء توجهاتهم الخارجية بمعزل عن وجود عدو افتراضي، بغية تبرير وجودهم العسكري في الشرق الاوسط، والهدف بالطبع الإستيلاء على ثروات المسلمين خاصة النفط المحرك الاول للفتن والحروب.
وعليه فإن الطفرة الاصولية التي تشهدها المجتمعات العربية والغربية، ودعم الولاياتالمتحدة المفرط لأمن إسرائيل، وإزدواجية المعايير الدولية تجاه قضايا المنطقة، وإستحضار الإرث التاريخي للعلاقة المضطربة بين الدوائر الحضارية المتلاقحة والمتعاكسة في آن؛ كل هذه العوامل وغيرها أحدثت شرخاً بين الأديان على مستوى العلاقة وليس على مستوى الرؤيا الى الله والوجود.
من ناحية أخرى أحدثت التحولات الدولية المترتبة على الصحوة الروسية، وتنامي الدور الاقتصادي والسياسي للصين، وتراجع المشروع الأمريكي على الصعيد الخارجي والداخلي، تبدلات إستراتيجية ترشح العالم الى تعددية الأقطاب والمحاور وتُسقط نظرية صموئيل هنتغتون. والحال فإن الحديث عن تصادم الحضارات ونهاية التاريخ عبارة عن إيديولوجيات أثبتت بطلانها، فالصراع بين الإسلام والغرب لا يتأسس على منطلقات دينية، وإنما على المصالح والادوار والقدرة على إثبات الوجود بمعناه السياسي، وإذا لم يتصالح عالم الشمال والجنوب، وإذا لم يُصغ رؤساء الحكومات الغربية المتعاقبة لمطالب الشعوب المُستعمَرة والاستعمار المقصود يندرج في سياق وصول النظام الرأسمالي الى ذروته ومن بينهم المسلمين الباحثين عن موقعهم ودورهم من ضمن القوى العالمية سنشهد المزيد من الفوضى والاضطراب.
يبقى أن الحضارات لا تتصارع بل تتثاقف وتتأثر وتكمل بعضها البعض، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم 'ولو لا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً' (سورة الحج)، 'ولو لا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض' (سورة البقرة).
*كاتبة وباحثة لبنانية جريدة القدس العربي 15/9/2009