د. فوزى فهمى دأب الغرب عبر مراحل علاقته بالمنطقة العربية الإسلامية، وفي ضوء استهدافاته الاستراتيجية، أن يفتعل صيغاً وأسباباً تسلطية متعددة، لا تكف عن ان تجعل المنطقة منتجة للصراعات، وذلك تسويغاً لممارساته في اختراقها، واغتصاب ثرواتها، وإكراهها علي استلاب أمنها، وغزوها، وفرض إحكام سيطرته عليها بالخداع والمداورة. وفي مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، غداة تسيد الإمبراطورية الأمريكية علي العالم، أطلق الباحث الأكاديمي، والكاتب الامريكي الراحل »صامويل هنتنجتون«، عام 3991 مقاله الشهير والمثير بعنوان »صدام الحضارات« الذي استعر حوله نقاش شرس مناهض له عالمياً، إذ تبدي المقال وكأنه ترجمة إجرائية لمفهوم صيغة جديدة مصطنعة، واضحة المغزي والهدف تطرح تشخيصاً لثنائية صدام من خلالها يتواصل الصراع في العالم مجدداً، حيث تتمسرح معارك صراع هذه الثنائية بين طرفين هما الغرب بوصفه طرفاً يتوحد ضد طرف ثان هو ما أسماه الكاتب »الحضارات الأخري غير الغربية«، تأسيساً علي قناعة تري ان ثمة خطوطاً حادة فاصلة بين الحضارات، تشكل قطيعة كارثية بين كل وحدة حضارية وأخري. عاد »هنتنجتون« عام 6991 فطرح الأفكار الرئيسية لمقاله المثير في كتاب بعنوان »صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي«، مفنداً تصوراته، واستدلالات تسويغاته الفكرية التي ترتكز عليها أسباب شراسة وعنف صراعات حروب ما بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث تؤكد الفكرة المحورية للكتاب سياقاً مفاده أنه في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، انكب البشر يكتشفون من جديد هوياتهم الثقافية، وراحوا يصطفون استناداً الي انتماءاتهم الحضارية، وذلك ما سوف يشكل منعطفاً تاريخياً، يتجلي خلاله ان تصبح الحضارات بهوياتها الثقافية المختلفة، هي الشرط الأساسي الكافي لإشعال النزاعات والصدامات والحروب القادمة بين الحضارات بوصفها سلطة بديلة عن سلطة العقاد الفكرية، التي حكمت صراعات النظام العالمي المنهار بانتهاء الحرب الباردة..صحيح أن خطاب »هنتنجتون« يعجز عن طرح توصيف معرفي إجرائي، يعقلن مفهوم صدام الحضارات، وكيفية اشتغاله، وذروة تشكله، سوي تعليله أن البشر الذين يبحثون عن هوياتهم الثقافية، ويعيدون ارتباطهم بالأعراق التي ينتمون إليها، بحاجة الي أعداء يؤكدون لهم اختلافهم، وهو طرح يتبدي تبريراً مصطنعاً، مفخخاً، متهافتاً، يحاول ان يوهم بحالة من الاقتناع، تتجاهل كل جهود الاقتدار الانساني وإنجازاته عبر العصور، مرتدة الي عهود عماء كان الاختلاف فيما يستدخل الشر المدمر الي علاقات البشر، بمناهضة الاعتراف بالاختلاف في فضائه الشرعي والسياسي، وحرمانه هويته، وهتك مقدساته بالانقضاض والعنف، وصحيح أيضاً ان »هنتنجتون« بولائه القطعي لخطته، يقرر ان هناك سبع حضارات أو ثماني، سوف تحتل مكان تشكيلات عالم ما قبل انتهاء الحرب الباردة، ثم يلتقط منها - بتمييز ليس عفوياً - ثلاث حضارات كبري يراها محمولة علي الصراع فيما بينها، وهي الحضارة الغربية، والإسلامية، والأرثوذكسية التي تضم روسيا، وما يدور في فلكها الديني الحضاري، لكن الصحيح كذلك أن »هنتنجتون« في ضوء استهدافاته - شرع كاشفاً عن حد القطيعة التي تفرض تضاداً حقيقياً، وتناحراً بين الحضارات، وذلك حين اعترف ان الدين هو الحجر الأساسي الذي يستند اليه في تعيينه للحضارات المختلفة، إذ قد يشترك البشر في أصولهم الإثنية، واللغة التي يتكلمون بها، لكن أصولهم الدينية تجعلهم ينتمون الي حضارات مختلفة وبذلك فإن »هنتنجتون« يكمل منظومة التسويغ والتبرير لأبدية الصدام بين الحضارات، بفرضه تديين الصراع بينها، وتتجلي خلاصة خطته بتقسيمه العالم الي ديانتين (هما: المسيحية، والإسلام) اللتين بين جوانحهما أعراق بشرية مختلفة، متخذاً من التعميم، والشمول، والتلفيق، وإخفاء الحقائق، استراتيجية سجال مرصود لإثارة التحريض بين الأديان وتحديداً يتضاد مع الاسلام حيث صنفه بوصفه حضارة صراعية، وأن له حدوداً دموية، مضيفاً حتمية دهرية علي صراع الغرب مع الاسلام. أثار هذا الافتراء المبرمج علي الأديان، الذي تقنعت به حسابات السياسة الأمريكية، استنكاراً عالمياً، تضاعف الي حدوده القصوي إذ راحت الصحف العالمية تصف صدام الحضارات بأنه الأساس النظري فشرعنة عدوان الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة علي الصين والعالم الإسلامي، وفي هذا السياق إذ بنا نطالع عام 7991 مقالاً ل »هنتنجتون« بعنوان »تآكل المصالح الوطنية للولايات المتحدة« تبرأ فيه من نظرية حتمية الصدام بين الاسلام والغرب لكن المدهش حقاً أن المأزق الفكري الذي حول الأديان الي أدوات في أيدي السياسة، يتلاشي بانعطافة جذرية تسجل تراجع فكرة صراع الهويات الحضارية علي يد صاحبها، وذلك وفقاً للخطاب الذي ألقاه »هنتنجتون« في دبي عام 1002 حيث وصفه »أنتوني سوليفان« - الباحث الأمريكي بمركز دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة ميتشجان - بأنه قد أظهر خلاله فهما جديداً بالأساس، متعاطفاً مع العالمين العربي والإسلامي، ووجه نقداً قاسياً لسياسة أمريكا الخارجية، وأن هذا التحول ما كان يخطر أبداً علي بال من قرأ فقط مقاله عام 3991 لقد انبثقت من خطاب »هنتنجتون« ثلاث نقاط مهمة، أولها: أن الولاياتالمتحدة ينبغي لها استدراك التخلي عن أي افتراض لأمركة العالم، وذلك بمراجعة أي استهواء بإمكانية ان تصبح الثقافة الأمريكية عالمية، وزن عليها أيضاً تخطي أي هواجس تصور ان الشعوب الأخري ترغب في تبني أسلوب حياة الأمريكيين أو قيمهم..وثانيها: أن علي الولاياتالمتحدة أن تتوقف عن جموح ممارسة سياسة التدخل غير الشرعي في بلدان العالم، إلا فيما يهدد المصالح الوطنية الحيوية، وثالثها: أن الولاياتالمتحدة عليها أن تبعد نفسها عن إسرائيل، وأن تلزم نفسها بجهود إقامة الدولة الفلسطينية، بحيث تكون القدس عاصمة مشتركة، وعليها أيضا ضمانة إزالة المستوطنات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية. تري هل تلك مراجعة واستدراك، أم أنها إحدي ممارسات سياسة الوجهين للولايات المتحدة، التي تتواري استدراجاً بمفاتن التطمينات، امتلاكاً للأذهان، استهدافاً الي تمكين الأمركة من الاستمرار خارج إطارها الجغرافي تسللاً كي تنتشر كوباء؟