الإنسانية فى حالة بحث جديدة وهناك حاجة إلى عملية ترميم كبيرة.. إن النظام العالمى يسقط شيئًا فشيئًا وقد فقد إمكانية إبداء رد الفعل تجاه الأزمات.. والتطورات على الصعيد التكنولوجى من شأنها أن تغير إلى حد كبير ليس فقط مستقبل الإنسانية من الناحية البيولوجية بل أيضا ستغير مستقبلها من الناحية النفسية والمعنوية.. إننا الآن بحاجة إلى الفلسفة والأعمال الفكرية أكثر من أى وقت مضى وإننا مضطرون على إنتاج حلول جديدة..) هذه الكلمات فى معرض محاضرة ألقاها أحمد داود أوغلو فى إحدى الجامعات بعنوان(الترميم الكبير: مفهومنا السياسى الجديد من القديم إلى العولمة).. د.أحمد جاء إلى القاهرة عام 1987م عقب تخرجه من كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية فى جامعة (بوغاز إيتشى) سنة 1983م حضر خلالها محاضرات الدراسات العليا بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة ليطلع على أحوال مدرسة العلوم السياسية المصرية.. سيلتقى خلالها بصداقة الفكر والشرف مع د.إبراهيم البيومى غانم ..ليحدثنا عن .. الرؤية الحضارية للفكر الاصلاحى فى تركيا التى تقوم على (الثقة بالذات الحضارية) ( التوازن الدقيق بين قوة الواقع وقوة الحق) وأنه لا يجوز المغامرة فى الفراغ.. كما لا يجوز التفريط فى قوة الحق.. يمكن إنجاز الكثير فى المسافة بينهما فى ضوء موازين قوى تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود. ورغم انتقاد د.أحمد لكل نظريات هنرى كيسنجر وتلامذته وصبيانه .أصحاب صدام الحضارات ونهاية التاريخ ونظريات النهاية ( نهاية الدين والأيديولوجيا والمؤلف...) إلا أن المفكر الكبير د.إبراهيم البيومى غانم.. قارن ذات مرة د.أحمد.. بهنرى كيسنجر..وهو ما أزعج أصدقائه وتلاميذه وأزعجنى أنا شخصيًا.. فمن هو كيسنجر هذا الذى يقارن بهذا الفيلسوف الضخم ..كيسنجر صاحب الثلاثية الشهيرة(يهودى ألمانى عمل بالمخابرات الأمريكية).. كان مجرد ظاهرة (هوليودية) أكثر منها ظاهرة(فكرية/فلسفية) أو حتى سياسية.. وإذا أذن الدكتور إبراهيم دعنا نقارن كيسنجر بشخصية لدينا مولودة فى نفس العام (1923م) شديدة الشبه به ..وحين زادت و(تورمت) أدوار كل منهما فى الحياة السياسية لبلديهما ستدهش أنهما حاولا الاتصال ببعضهما البعض مبكرًا جدًا إلى أن أتمت شركة (بيبسى كولا) هذا الاتصال!! عن طريق محاميها فى مصر د.زكى هاشم -لا تسأل عن علاقة البيبسى كولا بالسياسة وهيكل وكيسنجر من فضلك - تمهيدًا لدخوله الكبير على الرئيس السادات ليطيح بمكاسب حرب أكتوبر وليبدأ فى حفر (البئر العميقة) للصراع العربى الإسرائيلى ..الذى سيمر عبر محطات متتالية.. حتى أوسلو 1993 م حيث سلام بلا أرض كما قال الراحل النبيل د0إدوارد سعيد . د.أحمد داود أوغلو تخرج عام 1983م .. المفترض أن يكون من (جيل السبعينيات) على حد توصيفنا لهذا الجيل الشهير الذى قاد الحركة الطلابية فى فترة ما بين النكبتين(هزيمة 1967م - كامب ديفيد1979م) حيث الآثار الخالدة لخالدى الذكر المرحومين(جمال وأنور) ضباط (ال 18 شهرًا) الذين صنعوا تاريخ مصر الحديث كما وصفهم الناقد والروائى الكبير د.شكرعياد( 1921-1999م) فى مذكراته -على الحافة-. حيث التحقا عام 1936م بالكلية الحربية ومكثوا بها( 18 شهرًا) بعد فتح أبوابها للطبقة المتوسطة!!! وشبيه ما أحدثه جيل السبعينيات فى (الجماعة الإصلاحية) بما أحدثه الضباط فى (الجماعة الوطنية).. حيث المنحنى التاريخى الكبير لمسار الهبوط والاضمحلال.
لن تملك ترف منع الحسرة عن نفسك وأنت تتأمل تجربة( جيل السبعينيات) فى مصر و(جيل السبعينيات) فى تركيا.. صحيح أن لكل تجربة سياقها الخاص الذى تقرأ فيه.. لكن ذلك بقدر معين ونسبة محدودة.. لأنك فى النهاية أمام بشر ليسوا من طينة أخى.. فأنت لا تستطيع منع نفسك من المقارنة بين فكر وثقافة هنا فكر وثقافة هناك.. ستجد هنا الضحالة والخفة وترديد المقولات المعلبة وحصار الكفاءات. ستجد هناك البحث والإنتاج وتطوير الأفكار والتجارب وصون الكفاءات . ستجد التزامهم الدينى هنا يغلب عليه المظاهر إلى حدود تقترب من - الممارسة السلفية التقليدية- التى لم يعرفها المجتمع المصرى فى (تدينه) ولم تعرفها الصورة الاجتماعية لجيل الأربعينيات(الأستاذ البنا وأصحابه).. ستجد هناك التزامهم الدينى يغلب عليه العمق الصوفى حيث القلب السليم والخلق القويم والفهم العميق للنفس والإنسان وحياته ومصيره.. ستجد هنا الهلع والرعب على المكانة التنظيمية (حيث الهرمية والتراتب الذى يمنحك من المزايا ما يفوق قدراتك الشخصية والعائلية) وللمفارقة الخبيثة ستجد أن ما قالته الراحلة أروى صالح فى (المبتسرون) عن اليسار من (نفس الجيل) ينطبق بدرجة ما.. على الإسلاميين فى نفس الجيل (مفتاح سهل لغزو الدنيا !!) ستجدهم هناك يبحثون عن المعنى والقيمة والغايات الكبرى بأى وسيلة كانت.. تنظيمية أو غير تنظيمية ..فكان تطورهم النوعى الطبيعى عبر تجربة الأستاذ والرائد المؤسس د.نجم الدين أربكان بكل شرف واحترام وهدوء.. وشبيه بها - على فكرة!!- تجربة (مجموعة الوسط) فى مصر الثمانينيات.. وحين (يعتدل التاريخ) ليكتب حقيقة تلك التجربة.. ستذهل وأنت ترى أن المشهد كله كيف كان يتحرك على مسرح (الأهواء النفسية)حيث المنافسة والغل والوجاهة والنفوذ..وتفاصيل حزينة مريرة.. حين تعرف تفاصيلها تملأك الحسرة على عالم الرجال الكبار والأفكار الكبرى والإصلاح الحضارى.. (نفوس تمددت كثيرًا فى الفراغ ). ستجد نفسك مدهوشًا من قدر الحب والوفاء والتجرد الذى يربط هذا الجيل ببعضه فى (تركيا طبعًا!ا) ونقيضة التام هنا.. ستذهل ذهولاً ذهيلاً حين تلم ببعض التفاصيل والحكايات عن أدوارهم التاريخية الكبرى!! فى العمل العام (هنا طبعا!!) بعد أن تتكشف لك ولهم وجوه الحقائق.. وحين عرفت أخبارًا منها سألت المفكر والصديق د. بشير نافع عن سبب ذلك والمفترض دينيًا وأخلاقيًا ألا يكونوا كذلك؟ ابتسم هادئا وقال(أنداد..معلهش!!).. وأجبته ومن فى تركيا وتونس والمغرب.. أليسوا أندادا ؟ وقد اقتربت منهم وقرأت لهم !! وعنهم.. فى الفم ماء كثير.. ولا أريد أن استطرد كثيرًا فى الحديث عن تلك (البحيرة الأسنة ) ولعل الله أن يصلحهم ويصلح من يأتى بعدهم.. (لم يبق من الحلم القديم سوى وهم تبدد وبضع جراح). ( د.أحمد) وهذا هو لقبه الأثير الشهير له ثلاث كتب كبير على درجة كبيرة من الأهمية وما يقرب من 400 مقالة. .. الكتب الثلاثة كلها ترجمها وعربها وعمل عليها صديقه وصديقنا وأستاذنا د.إبراهيم البيومى غانم .. رغم أنه لا يقل قيمة ومكانة عن د.أحمد.. وهو على فكرة من جيل السبعينيات ولكن يبدو أنه (رأى وسمع) ما جعله ينكفئ أكثر على البحث الفكرى مبتعدًا عن المزاحمة و(التخبيط) وقلة البضاعة. وأنتج دراسة ضخمة عن (الوقف والسياسة).. هى فى الأصل رسالة الدكتوراة (1997م)وله دراسة أخرى رائعة نال بها الماجستير(1991م) ( الفكر السياسى عند حسن البنا) كتب لها مقدمة علمية عميقة المستشار طارق البشرى .. الكتب الثلاثة هى (العالم الإسلامى فى مهب التحولات الحضارية) يؤكد فيها أن ما يجرى فى العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتى ليس تعبيرًا عن انتصار الرأسمالية ولا عن نهاية التاريخ وإنما هو تعبير عن تحول حضارى واسع المدى سيشهد محورًا جديدًا بقيادة الصين والهند واليابان كما يحاول العالم الإسلامى من خلال حركات. (الإحياء الإسلامي) أن يبنى محورًا حضاريًا جديدًا أيضا مرتكِزًا على تماسك رؤيته للعالم: الحرية والأمان الوجودى - إنسانيًا وإسلاميًا. وكتاب (العمق الاستراتيجى) يتحدث فيه عن رؤيته للدور التاريخى والحضارى الذى تستحقه بلاده.. وهذا العمق الاستراتيجى كما يتصوره أحمد ينطوى على أبعاد حضارية وثقافية وتاريخية وجغرافية ودينية تشكل فى مجملها فرصة تاريخية.. كى تقوم تركيا بدور فعال ليس فقط فى النظام الإقليمى المحيط بها وإنما فى النظام العالمى أيضًا. وكتاب ثالث عن (الفلسفة السياسية) يحلل فيه الفروق الجوهرية بين الرؤيتين الإسلامية والغربية وآثارها على عديد من القضايا مثل ترتيب النظام السياسى الاجتماعى على أساس كونى وجودى . شرعية النظم السياسية.. التعددية السياسية ونظريات السلطة.. مركزية( المؤسسة السياسية) وتركيز القوة مقارنة بتعدد (المؤسسات الاجتماعية) فى النظام السياسي(الدولة والمجتمع) قضية الثنائية والتعددية فى تكوين النظام العالمى. ومن قرأ كثيرًا للدكتور على عزت بيجوفيتش وللدكتور عبد الوهاب المسيرى سيلحظ بوضوح كيف خرج كل هذا الفكر النير المنير من مشكاة واحدة. الآن أصبح (الدكتور أحمد)رئيسًا لحزب العدالة والتنمية ورئيسًا للوزراء.. وحقيق به أن يصبح كذلك وهو قد كان من قبل (الرافعة الفكرية الكبرى) لهذه التجربة التاريخية العظيمة.. وهو يحلم لتركيا فى الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية أن تصبح فى عداد (أكبر 10 اقتصادات فى العالم).. يقول: سنحترم الحدود ولكننا لن نسمح لأى من تلك الحدود فى محيطنا أن تتحول إلى جدران.. سننزع نحن والقيادات الجديدة التى اختارتها والتى ستختارها إرادة الشعوب فى الشرق الأوسط الذى تعصف به رياح التغيير- سننزع- من تلك الحدود معناها.. ولذلك نقوم باتباع سياسة إلغاء تأشيرات الدخول.. هدفنا هو( إحياء العيش المشترك) بيننا كما كنا (قديمًا) وإنتاج (مفهوم سياسى جديد) من ذلك العيش المشترك القديم ولعب دور ريادى فى عملية الترميم الكبرى التى تشهدها الإنسانية. سنتابع بحثنا عن نظام إقليمى جديد سيستند ببنيته الثقافية المتعددة على(الأمن المشترك) و(التفاعل الثقافي) و(الترابط الاقتصادى المتبادل) و(الوعى بالمصير المشترك)..لن ننشر الوعى بالمصير المشترك داخل تركيا فقط، بل سننشره فى كافة المناطق.. وسننشئ إلى جانب هذا الوعى مفهومًا سياسيًا جديدًا ناتجًا عن( القيم التى ورثناها من تراثنا القديم).. وعندما يأتى ذلك اليوم سنعود مجددًا إلى التاريخ وسنكون روادًا للأفكار والمفاهيم والقيم التى ستملأ الإنسانية جمعاء. ببساطة شديدة نحن أمام رجل أمين مع منطق التاريخ.. ويا غبطة الحضور.. ويا حسرة الغياب!!