الرباعيات نوع من الشعر مشهور في الشعر الفارسي.. وأشهرها طبعا رباعيات عمرالخيام التى ترجمها أحمد رامى وغنتها السيدة أم كلثوم ..ورغم أن الخيام كان فيلسوفا وعالما فى الفلك والرياضيات إلا انه لدى عامة الناس علم من معالم المرح واللهو ..لدينا أيضا رباعيات جلال الدين الرومى المترعة باشرا قات التصوف ورباعيات جاهين الساخرة الماكرة ولا ننسى بالطبع رباعية الإسكندرية للروائي البريطاني لورنس داريل ذات الأربع أجزاء والتى نشرها عام 1957 وحكى فيها عن حياة الأجانب فى الإسكندرية وقت الاحتلال وما كانت تحويه من خطايا ودنايا .. الآن لدينا (رباعية)د. عمرو حمزاوى ..التى نشرها يوم الثلاثاء 19/11 فى سلسلة مقالاته (هامش للديمقراطية) بجريدة الشروق.. .رباعيات د.حمزاوى تتحدث (أولاها) عن ادعاء الإسلاميين احتكار الحقيقة المطلقة وإخضاع الدولة والمجتمع لرؤى أحادية بشأن تمايزات الحق و الباطل والخير و الشر والصواب والخطأ وثنائية الصلاح و الطلاح على المستوى الشعبى...
وتتحدث (ثانيها) عن التوظيف الزائف للخطاب الدينى (الإسلام هو الحل) وللمساحات المعرفة دينيا (دور العبادة) للزج بالمقدس إلى السياسة على نحو يستهدف استتباع وفرض الطاعة على المواطن وانتهاك حقوقه والانتقاص من حرياته .
وتتحدث (ثالثها) عن نشر الخوف من التنوع وكراهية التعددية والتحريض اللفظى والمادى على المختلفين دينيا مذهبيا عرقيا سياسيا ونزع إنسانيتهم وإلغاء حقهم الطبيعى فى التعبير الحر عن المبدأ والفكر والرأى..
أما ( الرابعة) فتتحدث عن اختزال السياسة إلى صراع حدى على الهوية... الإسلام فى مواجهة الكفر والأصالة فى مواجهة التغريب !!والتقوى فى مواجهة الفساد..
وختم الرجل( رباعيته )بقوله: استبدل البعض فى الطبقة الوسطى المصرية إذن شمولية البطل الشعبى بسلطاته المطلقة وبهيمنة المكون العسكري الأمني وانتهاكات حقوق الإنسان والحريات (بشمولية التديين)... التى لم يكن لها باحتكارها للحقيقة المطلقة وبالفرض القسرى والقمعى للطاعة وبرفض التنوع والتعددية إلا أن ترتب حال الوصول إلى الحكم ذات انتهاكات الحقوق والحريات ونفس استتباع المواطن وأن تسعى للسيطرة على المكون العسكرى الأمنى لتوظيفه لصالحها وليس لإجباره على التزام القيم والإجراءات الديمقراطية.(انتهى كلام د.عمرو والذى يبدو غامضا بعض الشيء) والحقيقة أننى دهشت كثيرا من رباعيات د.عمرو ..ذلك أنه كان قد عمل فى معهد كارنيجى للسلام ما يقرب من عشر سنوات عكف خلالها على دراسة الحركات الإسلامية فكرا وحركة وتاريخ ..واصدر عام 2006 م بالتعاون مع ناتان براون وماريا اوتاوى دراسة جيدة بعنوان (الحركات الإسلامية والعلمانية الديمقراطية فى العالم العربى ..استكشاف المناطق الرمادية ) وهى الدراسة التى شملت بحوثا مستفاضة عن ست موضوعات كانت ولا زالت ذات طبيعة جدلية مستمرة(الشريعة/العنف/التعددية/المرأة/الأقليات/الحقوق المدنية) ..وأقول مستمرة لأن فكر الحركات الإسلامية الراشدة قد غطى كل هذه الموضوعات من (جرس الباب حتى غطاء الفراش) كما يقولون ود. حمزاوى تحديدا كان قد احتفى كثيرا بالبحث الوافى الذى أرسله الرائد الكبير د. عبد المنعم أبو الفتوح للمعهد حول هذه النقاط الست ..ونشر على نطاق واسع وترجم إلى العديد من اللغات وأعيد نشره على نطاق أوسع أثناء حملة الانتخابات الرئاسية (2011م
فيما إذن كل هذا الكلام المعاد المكرور والذى بدا فيه د حمزاوى فى هيئة( العلماني التقليدي) الذى لا يمل من تكرار نفس الأسئلة ونفس السرديات ونفس الحكايات (ما أرانا نقول إلا معادا** أو معارا من قولنا مكرورا ).
فأى حقيقة مطلقة هذه التى يدعيها الإسلاميين والأصل المرجعي للفكر والحركة (القرآن الكريم) يقول (وإنا أو إياكم لعلى هدى أوفى ضلال مبين )ومن أيام الإصلاح الأولى الشيخ حسن العطار والطهطاوى ومن جاء بعدهم لم يدع أحد على أى وجه من وجوه الإدعاء إمتلاكه للحقيقة المطلقة ..
وأى( زيف) فى أن يعلنوا عن برنامجهم الإصلاحي بشعار رمزي ... كون (الإسلام) يمثل لديهم إطارا جامعا لتصورهم وإدراكهم وفهمهم عن الوجود والموجودات والأشياء من حولهم ..وهم غير مهتمين وغير مقتنعين بالأفكار الأخرى التى تتناول التفسير الغربى للإنسان والكون و الحرية والتقدم والعقلانية والحداثة والحقيقة وباقى العناوين الكبرى التى تشكل حزمة المفاهيم (الحداثية وألما بعدية)فبأي عبارات وشعارات يعبرون عن أنفسهم وأفكارهم إذن..؟ ولما كل هذا الافتراء عليه بأنهم( ينشرون الخوف ويحرضون لفظيا وماديا على المختلفين دينيا ومذهبيا سياسيا !!؟؟) هذا كلام لا يمكن لأى محكمة فى الأرض إلا أن تنزل العقاب بقائله ..!!وتبلغ بك الدهشة كل المبالغ حين تقرأ قوله يضعون (التقوى فى مقابل الفساد والأصالة مقابل التغريب!!! )..واسأله عما إذا كان ضميره يسلمه لراحة النوم بعد هذه الكلمات؟؟!! ..بأى مقياس للأطوال يتحدد بعدك عن الصواب يا د عمرو!؟وإذا كان لايرضيك وقوفهم على الأرض ولا تعلقهم بالسماء ..فأين بالضبط تريدهم ؟؟ لا أدرى لماذا تذكرت أثناء قرائتى لهذا الكلام ..صديقنا العزيز (بتشورين) فى (بطل من هذا الزمان )للروائى الروسى ليرمانتوف( بتشورين) هذا لم يهنأ أبدا.. وأفلتت منه أجمل سنوات عمره فى الازدراء والسخرية من أفكار لا يفهمها ولم يحاول فهمها ..وعاش حانقا لاذعا لايدرى ماذا يفعل بطاقته وذكائه ..ولم يستطع أن يقوم بعمل نافع فى حياته ... لكن د.عمرو يفهم ويعى ويعرف..فقط المشكلة لديه هو.. فى رفضه لهذه المفاهيم على المستوى الشخصي لا الموضوعي..(إذ ليست هناك ثمة موضوعيه فى حرف مما كتبه)وهذا حقه الكامل . وحقيقة.. لقد مل الفكر الإصلاحي من تلك الشخصيات التى عاشت فى الغرب بلا مناعة حضارية أو فكرية وانغمست فيه حتى النخاع ثم عادت إلينا لتحاكمنا على مقتضى قيم الغرب وأفكار الغرب ..لقد أصبحت تلك الشخصيات قديمة جدا ..وأصابها توقف فكرى وإدراكى على عتبة فرح انطون وسلامة موسى ولويس عوض وجيل كيبيل وأوليفيه روا وبرنارد لويس (نفس القصص و نفس السرديات..)لم يقتربوا من العقاد ومحمود شاكر والرافعى عبد الرحمن بدوى ومالك بن نبى وزكى نجيب محمود الذى أبدع فى مشروعه الفكرى بأخر ما أنتجه(عربى بين ثقافتين) ..وبالطبع العلامة عبد الوهاب المسيرى (الخطاب الإسلامى الجديد)..وكل هؤلاء الذين يشكلون مستودع الأصالة الكاملة للذات العربية والإسلامية لمن أراد بحق وحقيق ان يتواصل مع ذاته وتاريخه وحضارته ...ثم ان الغرب الان لديه مراجعات هائلة حول دور الدين فى المجتمعات وقد أشرت كثيرا لما كتبه (يورجان هابرماس)ابن مدرسة فرانكفورت عن أفكار ما بعد العلمانية الأخذة فى فتح أبواب المجتمع على مفاهيم الدين فى معاملات الدنيا والناس . جانب أخر من جوانب اهتزاز المفاهيم عند د حمزاوى وغيره وهو تجربة جيل السبعينيات من الإسلاميين التى حفلت بقدر كبير من الكسل الفكرى والمعرفى مما أسفرت عن وقوف جيل كامل تقريبا من المثقفين خارج (باب الدار) إذ لم يجدوا لدي هذا الجيل ورموزه ..أي شيء يرضى غرورهم الفكري والثقافي ..ليس هذا فحسب بل ويدخلون _أى انتخابات_ فيصوت لهم الناس ويفوزوا ..وتنتهي القصة ...! لم يقولوا لهم أننا هنا لنفكك السلطة المطلقة للدولة وبنيتها العميقة المتجذرة فى الفساد والهيمنة ونمهد الطريق لإقامة (دولة الناس).. لم يقولوا لهم أننا هنا لنحيى العمل الأهلي ونضبط ميزان العلاقة بين الدولة والمجتمع لصالح المجتمع القوى بمؤسساته ونقاباته واتحاداته وجمعياته .. لم يقولوا لهم أننا هنا لنصنع من أبناء هذا الوطن ضميرا جمعيا يراقب وينصح وينير .. لم يقولوا لهم أننا هنا لبناء منظومة إسلامية ذات طابع إنسانى تتعامل مع كل معطيات الدنيا والحياة .. واقع الحال أنهم لم يقولوا ما يكفى..بما يوسع دائرة المعنى فى فكرة الإصلاح حتى جاءنا د .حمزاوى ليعرب لنا عن تأففه وتأذيه من تديين( المجتمع والدولة) هو بالطبع يجهل ما يتصور عرفانه .. لكن الواجب الذى كان يفرضه عليهم الشرط الإنسانى لفكرة الإصلاح الإسلامى كان يتطلب منهم الكثير الذى لم يقدموه . لكن الأمل كبير وكبير جدا فى الأجيال الصاعدة من أبناء التيار الإسلامى التى تمتلك ركائز قويه وهادئة وعميقة للرهان على إنسان جديد وأفكار جديده تجسد قيم السمو والامتداد الحضارى المفتوح الأفق على رحابة وسعة ويسر وشمول الإسلام العظيم.