يأتى الفيلم النرويجى «أحلام.. حب.. جنس» dreams Sex Love، الذى عُرِض على شاشة مهرجان الجونة السينمائى فى دورته الثامنة، والمتوج بالدب الذهبى فى الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان برلين السينمائى الدولى، ليشكل خطوة فاصلة فى تاريخ السينما النرويجية؛ يقفز بها المخرج داج يوهان هاوجيرود، المعروف بقدرته على تفكيك العلاقات الإنسانية بمنهج بسيط وواقعى، يجعلنا نعيد التفكير فى حدود العاطفة والبوح والحرية. فى رؤية تنبض بالصدق والارتباك يحكى الفيلم قصة جوان، فتاة فى السابعة عشرة من عمرها، تعيش فى بلدة نرويجية صغيرة، وتجد نفسها تقع فى اعجاب شديد بمعلمتها الفرنسية. بدلًا من مواجهة مشاعرها مباشرة، تبدأ جوان بكتابتها فى دفتر يومياتها، تخلط فيه بين الواقع والخيال، بين ما حدث فعلًا وما كانت تتمنى أن يحدث. تسجل خيباتها، والأسئلة التى تراودها. حين تكتشف الأم والجدة هذه الكتابات، وتقع فى ايديهم يثور جدل داخلى: تتحوّل الأحلام إلى صراع عائلى وأخلاقى، وتبدأ الأسئلة فى الانفجار: هل هذه مجرد كلمات بريئة أم اعترافات خطيرة؟ هل الكتابة فعل تخيلى أم كشف عن الذات؟.. هل هذا التعبير ينتمى للخيال أم يصف حقيقة؟ هل ينبغى نشر هذه الكتابة؟ كيف يتعامل الأهل مع مثل هذه الأقوال الصادقة والحسّاسة؟ المخرج هاوجيرود لا يقدم إجابات جاهزة، بل يترك المشاهد فى مساحة رمادية من التأمل والارتباك، حيث تختلط الرغبة بالذنب، والصدق بالخوف من المجتمع. سينما الهمس لا الصراخ يمتاز الفيلم بجماليات بصرية هادئة، كاميرا تتحرك ببطء داخل فضاءات منزلية مألوفة، وإضاءة طبيعية توحى بالحميمية أكثر من الدراما. يستعيض المخرج عن الحوار الزائد بالسرد الداخلى (Voice-over) الذى يسمح لنا بالاقتراب من ذهن البطلة، لنسمع تردداتها وهواجسها كما لو كنا نقرأ مذكراتها نحن أنفسنا. هذه التقنية تجعل الفيلم يبدو كأنه رواية أدبية مصورة، تتقدم على إيقاع التأمل لا الحدث. الأداء والتمثيل.. صدق بلا مبالغة الممثلة الشابة إيلا أوفرباى تؤدى دور «جوان» بعفوية مؤثرة، تجمع بين البراءة والفضول، وبين الرغبة فى الفهم والخوف من الفضيحة. أما شخصية الأم والجدة، فهما لا تمثلان فقط جيلين مختلفين من النساء، بل أيضًا وجهين لامرأة واحدة فى مراحل مختلفة من حياتها - فتاة كانت تحلم، وأم تعلمت كيف تكتم الحلم. لا يمكن اختزال الفيلم فى قصة إعجاب مراهقة بمعلمتها، ف«أحلام» يتناول ببراعة أعمق قضية التعبير عن الذات، وسؤال الحرية فى مواجهة التقاليد. إنه فيلم عن الكتابة كفعل وجودى، عن الحلم كمساحة للمقاومة، وعن الحدود التى يضعها المجتمع بين «ما يجوز» و«ما يُحسّ». بهذا المعنى، يصبح عنوان الفيلم «أحلام» أكثر من مجرد وصف بل بيان فنى عن حق الإنسان فى أن يحلم دون خوف. تتويج للحس الإنسانى اختيار لجنة التحكيم فى برلين لهذا الفيلم ومنحه الدب الذهبى، لم يكن مجرد مكافأة لجودة الإخراج أو الأداء، بل إشادة بجرأة طرحه وصدقه العاطفى، وتصويره السردى المختلف للشباب والحب والقوى الداخلية والخارجية التى تحركنا ومدى صدام الأحلام مع التقاليد. ينطور السرد بشكل رائع، ومفاجئ، يتجاوز الأفكار المسبقة حول ماهية قصة بلوغ سن الرشد، ويقاوم حصر نفسه فى تفاصيل فردية لبطلته، محتضنًا التعقيدات الفوضوية لهذا الحب الأول والمواقف الناجمة عنه، ولا يمكن أن نغفل الموسيقى التصويرية السيمفونية لآنا بيرج التى ترفع من إحساسنا برحلتها العاطفية إلى الصور الشعرية التى تبعنا فى سؤال آخر؛ هو كيف يمكن أن يؤثر حلم واحد على أحلام الآخرين، وكيف لا تشكل مسيرة الأحلام أزمة اذا ما أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية وماذا يحدث عندما تلتقى تلك الأحلام بالواقع؟ وهل يختفى؟ تلك الأسئلة تتوغل إجابتها بداخلنا عقب العرض. الواقع أنه بينما تميل معظم أفلام المهرجانات إلى المبالغة فى الصدمة أو الغرابة، جاء الفيلم ليذكرنا بأن السينما العظيمة قد تولد من تفاصيل يومية بسيطة، ومن فتاة تكتب فى دفترها بحثًا عن ذاتها. فى النهاية، يُثبت فيلم «أحلام» أن السينما النرويجية قادرة على تجاوز حدود الجغرافيا واللغة، لتصل إلى أكثر ما هو إنسانى وعالمى فى التجربة البشرية. فهو فيلم لا يطلب منا أن نتفق مع أبطاله، بل أن نصغى إليهم.. إلى أحلامهم، ورغباتهم، وتناقضاتهم التى تشبهنا جميعًا.