رحل منذ أسبوعين عن عالمنا المفكر الكبير وأستاذ الأدب الانجليزي بجامعة القاهرة د. محمد يحيي.. رحل في هدوء دون أن يشعر به أحد.. أو يهتم برحيله أحد.. ولم يعرف المقربون منه برحيله إلا صدفة. يحيي رغم أنه ناشط فكري من داخل الحالة الإسلامية، إلا أنه كان يعرف قدره وقيمته سدنة "الحداثة المتعالية" مثل جابر عصفور وصلاح فضل.. وغيرهما.. بل إن الأول ارتبط بصداقة وزمالة عمل سنوات طويلة مع يحيي رحمه الله.. وكتب عنه عرضا في إحدى مؤلفاته، ولفت أحدهم إلى أنه لو كان محمد يحيي علمانيا.. لصنع له العلمانيون تمثالا تخليدا لوزنه العلمي بوصفه أحد أهم المفكرين العرب الذين ظهروا في الثلاثين عاما الأخيرة. ويحيي لمن لا يعرفه "قعيد" لا يتحرك من جسده إلا بضع أصابع تمكنه من الكتابة بصعوبة، وواسع الاطلاع على ثقافة الغرب بشكل مدهش ربما لإجادته ما يقرب من أربع لغات أجنبية كتابة ومحادثة.. بل يعتبر أحد أبرز من كتبوا أبحاثا رصينة بلغة انجليزية أبهرت الانجليز أنفسهم. لقد كتب عنه بعد وفاته قليل من أصدقائه وعاتبوا تيار الحداثة العلماني الذي تجاهل الرجل حيا وميتا، رغم أنهم يعرفون قدره ولما كان يتمتع به من هيبة علمية كبيرة .. ولاسهاماته في تأسيس المشروع الوطني للترجمة والذي تبنته وزارة الثقافة، إذ كان يحيي يمثل قوام هذه المشروع الأساسي.. ليس حبا في يحيي ولكن حاجة إليه لانقاذ سمعتهم ومصالحهم التي ارتبطت بمستقبل هذا المشروع. وإذا كان مفهوما تجاهل العلمانيين لمفكر إسلامي مثل محمد يحيي رغم اعترافهم بقيمته وباعتباره شاءوا أم أبوا إضافة لا يمكن تجاهلها لرصيد مصر الثقافي.. فإنه لم يكن مفهوما أن يتجاهله الإسلاميون أيضا حيا وميتا. يحيي رحمه الله لم يجد له نافذة ليطل منها على الناس، إلا مجلة "المختار الإسلامي".. وهي إحدى روافد الصحافة الإسلامية التي شاركت في صنع الضمير الثوري المصري على مدى عقود قبل أن يضعف وهجها لأسباب تتعلق بأزمات مالية أنهت تقريبا تأثيرها على الرأي العام الإسلامي. منذ ذلك الحين لم يلتفت إليه الإسلاميون.. إلا مجلة "المنار الجديد" يرأس تحريرها جمال سلطان وكذلك "المصريون".. ولم يكن يحيي يحتاج فقط إلى نافذة صحفية ليكتب فيها مقالا يوميا او أسبوعيا.. لأنه كان طاقة فكرية متدفقة ومبدعة ويمثل حالة فريدة في التحليل الفكري والسياسي ويعتبر أفضل مفسر لأزمة الحداثة وتحولاتها وتأثيرها على صناعة الرؤساء والزعماء والقادة السياسيين في العالم العربي.. وبمعنى أنه كان يحتاج إلى قوى مالية ومؤسسية إسلامية تستثمر طاقاته وتحولها إلى منتج و"مشروع متكامل" لتقوية موقف الإسلاميين أمام تحديات الحضارة والسياسة والحداثة.. وهي التحديات التي أنهت حكمهم في أقل من عام. الإسلاميون مثل العلمانيين تجاهلوا محمد يحيي .. لأن التيار الإسلامي تحكمه أيضا "المشايخية" و"الشللية" و"الانتماء التنظيمي" .. ولا يقرب إليه إلا اهل "الولاء" و"الثقة".. ولا يعبأ بالكفاءة أيا كان قدرها العلمي أو البحثي.. ويعتبر د. محمد يحيي ضحية هذا الفرز.. وفي سيرته النضالية رحمه الله الكثير من المرارات التي لا تسمح ظروف الإسلاميين حاليا للكشف عنها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.