انطلاق مؤتمر أخبار اليوم العقاري الخامس 16 يونيو المقبل    مندوب فرنسا لدى مجلس الأمن: إسرائيل يجب أن تمتثل للقانون الإنساني الدولي    الزمالك يهزم الأهلي في أولى مواجهات نصف نهائي دوري سوبر السلة    على طريقة كريستيانو رونالدو.. مصطفى شلبي يعاتب نفسه بعد مباراة بيراميدز    انقلاب سيارة ربع نقل محملة بالحديد بطريق مصر إسكندرية الزراعي| صور    أفضل 10 إطلالات للنجمات على السجادة الحمراء لمهرجان كان السينمائى.. صور    فيلم الرحيل يومًا ما يفتتح مهرجان كان 2025:    اللواء أيمن عبد المحسن: إسرائيل تنتهج سياسة مزعزعة للاستقرار بالمنطقة    اتحاد شباب كفر الشيخ ينظم ملتقى «قلبي على وطني» لتعزيز الوعي    وزير التعليم يستقبل الممثل المقيم لصندوق الأمم المتحدة للسكان لبحث سبل تعزيز التعاون    محافظ جنوب سيناء خلال لقاؤه «الجبهة»: المواطن السيناوي في قلب الأولويات    "إبداع بلا حدود".. 60 مشروعًا ابتكاريًا لطلاب التربية الفنية ب "نوعية طنطا"    الصين صدرت 242 ألف سيارة تجارية في الربع الأول من 2025    خالد أبو بكر: قانون تنظيم الفتوى يمنع الفوضى التي قد تضر بالرأي العام    نصائح للتغلب على الحر والنوم بعمق    وكيل الصحة بالمنوفية يتفقد القومسيون الطبي لبحث تطوير الخدمات    وزير خارجية سوريا: رفع ترامب العقوبات عن بلادنا نقطة تحول محورية    هل الصور الفوتوغرافية في البيوت تمنع دخول الملائكة ؟ أمين الفتوى يجيب    مسؤول روسي: الهدف الرئيسي لمحادثات إسطنبول إرساء سلام مستدام في أوكرانيا    التقنية الحيوية ومستقبل مصر.. رؤية من جامعة القاهرة الأهلية    محافظ الدقهلية: 1457 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية الخليج مركز المنصورة    الصحة العالمية تحذر من عجز أعداد الممرضين في إقليم شرق المتوسط    إلهام شاهين تشارك جمهورها صورًا من على شاطئ البحر في لبنان    رئيس الاتحاد الدولي للشطرنج يشكر مصر على استضافة البطولة الإفريقية    وكيل وزارة الصحة يعقد اجتماعًا مع لجنة المعايشة بمستشفى سفاجا المركزي    المرأة الوحيدة في استقبال ترامب.. من هي الأميرة السعودية ريما بنت بندر؟    رئيس الوزراء يستعرض جهود تعزيز استدامة جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة    جامعة برج العرب التكنولوجية تنظم الملتقى الثاني لكليات العلوم الصحية التطبيقية    سن الأضحية من الخروف والماعز والبقر.. يكشف عنها الأزهر للفتوى    ننشر الصورة الأولى لشاب ألقى بنفسه في ترعة الإسماعيلية    «كان يا ما كان في غزة» ينطلق في عرضه العالمي الأول من مهرجان كان السينمائي    انطلاق المسابقة العالمية للقرآن الكريم بمديرية أوقاف كفر الشيخ    أهلي طرابلس الليبي يعلن استمرار حسام البدري مديرا فنيا للفريق    النقل: وسائل دفع متنوعة بالمترو والقطار الكهربائي للتيسير على الركاب    "نيويورك تايمز": قبول ترامب للطائرة الفاخرة يتجاوز حدود اللياقة.. ومعلومات عن اطلاق عملة مشفرة لتمويل مؤسسته    قرار عاجل من المحكمة في إعادة إجراءات محاكمة متهمين بأحداث شغب السلام    الصحة العالمية: نصف مليون شخص فى غزة يعانون من المجاعة    فرص عمل بالإمارات برواتب تصل ل 4 آلاف درهم - التخصصات وطريقة التقديم    براتب 87 ألف جنيه.. تعرف على آخر موعد لوظائف للمقاولات بالسعودية    بالصور- مصادرة مكبرات صوت الباعة الجائلين في بورسعيد    13 ملعقة بماء الذهب.. مذيعة تتهم خادمتها بالسرقة والنيابة تحقق    مصدر ليلا كورة: لا توجد أزمة في خروج حسام عبد المجيد لأداء امتحان ثم عودته    وزير الثقافة يزور الكاتب صنع الله إبراهيم ويطمئن محبيه على حالته الصحية    رئيس الوزراء يتابع إجراءات طرح إدارة وتشغيل مشروع "حدائق تلال الفسطاط"    أمينة الفتوى توضح سنة الاشتراط عند الإحرام    «بتهمة تزوير معاينة بناء».. السجن سنتين لمهندس تنظيم بمركز مغاغة في المنيا    تحديد موعد مشاركة الجفالي في تدريبات الزمالك    الأكاديمية الطبية العسكرية تفتح باب التسجيل ببرامج الدراسات العليا    المشدد سنة ل3 أشخاص بتهمة حيازة المخدرات في المنيا    غلق 138 محلًا لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    استلام 145 ألف طن من القمح المحلى بمواقع التخزين بالصوامع والشون فى بنى سويف    رئيس «اقتصادية قناة السويس»: توطين الصناعة ونقل التكنولوجيا هدف رئيسي باستراتيجية الهيئة    مصرع شاب غرقا فى حوض مياه بالشرقية    جدول مواعيد امتحانات الترم الثاني 2025 في محافظة أسيوط جميع الصفوف    ولي العهد السعودي في مقدمة مستقبلي ترامب لدى وصوله إلى الرياض    تغيير وحيد بالتشكيل المتوقع للأهلي لمباراة سيراميكا كليوباترا    صحة غزة: شهيدان فلسطينيان إثر قصف إسرائيلي استهدف مجمع ناصر الطبي    حكم تسوية الصف في الصلاة للجالس على الكرسي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في وداع أستاذي الدكتور محمد يحيى
نشر في المصريون يوم 15 - 08 - 2014

في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي الماضي كنت شابا يتحسس خطواته نحو الصحافة وعالم الفكر والإبداع ، حائر بين القصة والشعر والدراسات الدينية في علوم الحديث وأصول الفقه بشكل خاص ، وفي دراسة التاريخ والكتابة فيه ، وكانت المرحلة ثرية بالصحف والمجلات ، غير أن مجلة واحدة كانت تشدني بقوة ، ربما لقربها من عالمي الإسلامي الذي أنتمي إليه ، وربما لروحها الشبابية وحيويتها وحداثتها التي كانت تتصف بها من بين المجلات الأخرى حتى الإسلامية ، تلك هي مجلة المختار الإسلامي ، وكان هناك كاتب من كتابها يبهرني ويجعلني أتأمل حالة الوهج الفكري المستمر لديه ، وتدفق الأفكار وسلاستها ، وسهولة الكتابة ، واللغة البسيطة والمقنعة التي يستخدمها ، كنت لا أترك له مقالا ولا سطرا إلا قرأته بتأمل وتمعن وإعجاب كبير ، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي أستطيع فيه أن أكتب كما يكتب أو أن أقدم أفكاري بتلك البساطة التي يمتلكها هذا العبقري ، كان هذا الكاتب الذي ألهمني حب الكتابة ووضعني دون أن أراه على أولى خطواتها ، هو المفكر الكبير الدكتور محمد يحيى ، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة .
كثيرون ممن يقرأون اسمه الآن ، حتى من الشباب الإسلامي ، ربما لا يعرفونه حق المعرفة ، ربما سمعوا عنه من بعيد ، وأما الآخرون من التيارات الفكرية والثقافية الأخرى فبالتأكيد لا يسمعون به ، من فرط حالة التعتيم التي كانت تفرض على أي نابغة في الفكر الإسلامي أو الحالة الإسلامية وفرض الحصار الإعلامي عليه ، ومنع إتاحة أي فرصة أمامه للحضور الثقافي أو الجماهيري ، ناهيك عن أن هذا الصنف من الكتاب والمثقفين والمبدعين منفيون دائما من المؤسسة الثقافية الرسمية ، وزارة الثقافة ، بكل أذرعها ، لأنهم عادة لا يقبلون أن يدخلوا "الحظيرة" التي تحدث عنها وزير ثقافة مبارك فاروق حسني ، والذي خلفه في الوزارة الحالية ذراعه الأيمن على مدار عشرين عاما ، الدكتور جابر عصفور ، هذا على الرغم من أن محمد يحيى كان الملجأ والملاذ لجابر عصفور كلما استعصى عليه سرعة إنجاز ترجمة كتاب مهم وكبير من الانجليزية ، ويكون حريص اعلى أن يتم في منتهى الدقة والوعي ، فكان يلجأ إلى محمد يحيى ، بعيدا عن الضوء طبعا ، ولا يعرف كثيرون أن جابر عصفور يدين بالفضل إلى هذا الكاتب "المنسي" في كثير من أهم إنجازاته الثقافية في وزارة الثقافة ، فقد كان الدكتور محمد يحيى واسع الاطلاع على الأدب الإنجليزي قديمه وحديثه ، كما كانت لغته مشهودا لها ، والحقيقة أنه لم يكن يتقن الإنجليزية وحدها ، وهي مجال تخصصه الأكاديمي ، بل كان يتقن اللغة الفرنسية والإيطالية والأسبانية والألمانية معا ، ويترجم عنها ، وكثيرا ما كان يحدثني عن حبه للسهر والتجول بين إذاعات تلك الدول حيث يخرج بحصاد فكري وسياسي وديني وإنساني خصيب .
عندما قررت أن أغادر قريتي وأقتحم عالم القاهرة الغامض والمثير بالنسبة لي ، كان أول طموحاتي أمران : أن أزور الأماكن والأحياء التي كتب عنها نجيب محفوظ في الثلاثية وبداية ونهاية وغيرها من رواياته التي قرأتها بنهم شديد وأنا شاب صغير ، والطموح الثاني أن أقابل صاحب هذا القلم المبدع والرائع ، محمد يحيى ، وبعد البحث والتقصي عرفت أنه يقيم في شقة صغيرة بحي السيدة زينب ، كانت لا تتجاوز الخمسين مترا على ما أذكر ، في بناية قديمة ، يقيم فيها هو ووالدته ، كان هذا العبقري قعيدا ، مصابا بضمور في العضلات كافة ، القدمين واليدين ، لا يمشي ولا يتحرك ولا يقوم ولا يقعد ، إلا أن يحمله آخر ، وكان يقوم بهذا الدور والدته الفاضلة رحمها الله ، وإذا حاولت السلام عليه لا بد أن تصل يدك إلى مستوى جسده لكي تلامس كف يده ، لأنه لا يستطيع أن يرفعه ، لكن إرادة الله أن يتحرك من جسده كف يده ، ليمسك القلم ، ويبدع كل هذه المقالات والكتب الرائعة التي صنعت أفكار جيل كامل من الإسلاميين ، ودرجت على تلك الزيارة كل فترة ، خاصة بعد أن عملت في المختار الإسلامي سنوات عدة ، وأشهد أني تعلمت منه الكثير ، وأعتبره أحد أهم أساتذتي الذين أدين لهم بالفضل ، وكنت ألجأ إليه كثيرا عندما أبحث عن جلاء فكرة ما أو أبعاد شخصية ما ، ثم انتقل بعد ذلك إلى مسكن آخر أفضل حالا بالجيزة .
محمد يحيى أستاذ للأدب الانجليزي ، ومع ذلك كانت كل كتاباته تنزع للدفاع عن العروبة والإسلام والحضارة والتاريخ الإسلامي وكل ما يمثل أصالة هذه الأمة ، بينما كان زملاؤه من أساتذة الأدب العربي مثل جابر عصفور ينزعون إلى التغريب والاحتقار للفكر الإسلامي والتمرد على كل ما يشير للأصالة في حضارة الإسلام ، وتلك مفارقة غريبة ومتكررة ، تحتاج إلى تأمل وربما دراسة ، وهكذا كان الراحل الكبير الدكتور عبد العزيز حمودة رحمه الله أستاذ الأدب الإنجليزي ، صاحب المرايا المحدبة ، كان مدافعا صلبا عن أصالة الأدب العربي والفكر الإسلامي وحضارة الإسلام ومناهج النقد العربية الأصيلة ، بينما صلاح فضل مبشر بالثقافة الغربية ومدارسها النقدية ، ربما هي عقدة النقص التي تعمقت عند بعض أساتذة الأدب العربي بينما ذابت وتلاشت بعمق الدراسة والتأمل عند أساتذة الأدب الإنجليزي ، ورغم كل ما قدمه محمد يحيى للثقافة المصرية ولوزارة الثقافة نفسها فضلا عن عطائه الأكاديمي تدريسا وإشرافا على رسائل للماجستير والدكتوراة ، إلا أنه لم يمنح أي جائزة من آلاف الجوائز التي أغدقها جابر عصفور على حوارييه ، حتى أولئك الذين اشتروا شهادات علمية مزورة مثل صاحبه سيد القمني فمنحه جائزة الدولة التقديرية.
قبل أيام فاجأني بعض الأصدقاء بأن الدكتور محمد يحيى توفاه الله ، ورحل عن عالمنا ، كانت صدمة ومفاجأة لم يسبقها أي أخبار عن تراجع حالته الصحية ، كما أن أيا من مؤسسات الدولة الثقافية لم تنعه ولم تشر لرحيله ، رغم أن بعض التافهين تسود لهم صفحات طوال وتعقد لهم احتفاليات ضخمة في وزارة الثقافة ، لأنهم "على الهوى الرسمي" ، نسي جابر عصفور صديقه الذي يدين له بالفضل في أعمال كثيرة يعرفها جيدا ويعرفها آخرون بوزارة الثقافة ، وقد قررنا أن نوفيه بعض حقه في صحيفة المصريون الأسبوع المقبل بإذن الله ، فأمثال هؤلاء العظماء لا ينبغي أن يرحلوا في صمت .
رحمك الله أستاذي العظيم ، خسارتنا فيك فادحة ، فمثلك لا يتكرر بسهولة ، وأشهد أنك أديت أمانتك بإخلاص وصمت ، أحببت هذا الوطن حتى الثمالة ، رغم أنك لم تر منه إلا الجفاء والتجاهل والإهمال ، وصنعت عالما فكريا من الاستنارة الحقيقية وليست المزيفة ، ألهمت كثيرين ، وعلمت كثيرين ، ودافعت عن هذه الأمة وحضارتها وتاريخها ودينها ، وكشفت الكثير من زيف الحضارة الغربية ، بإنصاف واعتدال وعمق ، رحمك الله .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.