في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي الماضي كنت شابا يتحسس خطواته نحو الصحافة وعالم الفكر والإبداع ، حائر بين القصة والشعر والدراسات الدينية في علوم الحديث وأصول الفقه بشكل خاص ، وفي دراسة التاريخ والكتابة فيه ، وكانت المرحلة ثرية بالصحف والمجلات ، غير أن مجلة واحدة كانت تشدني بقوة ، ربما لقربها من عالمي الإسلامي الذي أنتمي إليه ، وربما لروحها الشبابية وحيويتها وحداثتها التي كانت تتصف بها من بين المجلات الأخرى حتى الإسلامية ، تلك هي مجلة المختار الإسلامي ، وكان هناك كاتب من كتابها يبهرني ويجعلني أتأمل حالة الوهج الفكري المستمر لديه ، وتدفق الأفكار وسلاستها ، وسهولة الكتابة ، واللغة البسيطة والمقنعة التي يستخدمها ، كنت لا أترك له مقالا ولا سطرا إلا قرأته بتأمل وتمعن وإعجاب كبير ، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي أستطيع فيه أن أكتب كما يكتب أو أن أقدم أفكاري بتلك البساطة التي يمتلكها هذا العبقري ، كان هذا الكاتب الذي ألهمني حب الكتابة ووضعني دون أن أراه على أولى خطواتها ، هو المفكر الكبير الدكتور محمد يحيى ، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة . كثيرون ممن يقرأون اسمه الآن ، حتى من الشباب الإسلامي ، ربما لا يعرفونه حق المعرفة ، ربما سمعوا عنه من بعيد ، وأما الآخرون من التيارات الفكرية والثقافية الأخرى فبالتأكيد لا يسمعون به ، من فرط حالة التعتيم التي كانت تفرض على أي نابغة في الفكر الإسلامي أو الحالة الإسلامية وفرض الحصار الإعلامي عليه ، ومنع إتاحة أي فرصة أمامه للحضور الثقافي أو الجماهيري ، ناهيك عن أن هذا الصنف من الكتاب والمثقفين والمبدعين منفيون دائما من المؤسسة الثقافية الرسمية ، وزارة الثقافة ، بكل أذرعها ، لأنهم عادة لا يقبلون أن يدخلوا "الحظيرة" التي تحدث عنها وزير ثقافة مبارك فاروق حسني ، والذي خلفه في الوزارة الحالية ذراعه الأيمن على مدار عشرين عاما ، الدكتور جابر عصفور ، هذا على الرغم من أن محمد يحيى كان الملجأ والملاذ لجابر عصفور كلما استعصى عليه سرعة إنجاز ترجمة كتاب مهم وكبير من الانجليزية ، ويكون حريص اعلى أن يتم في منتهى الدقة والوعي ، فكان يلجأ إلى محمد يحيى ، بعيدا عن الضوء طبعا ، ولا يعرف كثيرون أن جابر عصفور يدين بالفضل إلى هذا الكاتب "المنسي" في كثير من أهم إنجازاته الثقافية في وزارة الثقافة ، فقد كان الدكتور محمد يحيى واسع الاطلاع على الأدب الإنجليزي قديمه وحديثه ، كما كانت لغته مشهودا لها ، والحقيقة أنه لم يكن يتقن الإنجليزية وحدها ، وهي مجال تخصصه الأكاديمي ، بل كان يتقن اللغة الفرنسية والإيطالية والأسبانية والألمانية معا ، ويترجم عنها ، وكثيرا ما كان يحدثني عن حبه للسهر والتجول بين إذاعات تلك الدول حيث يخرج بحصاد فكري وسياسي وديني وإنساني خصيب . عندما قررت أن أغادر قريتي وأقتحم عالم القاهرة الغامض والمثير بالنسبة لي ، كان أول طموحاتي أمران : أن أزور الأماكن والأحياء التي كتب عنها نجيب محفوظ في الثلاثية وبداية ونهاية وغيرها من رواياته التي قرأتها بنهم شديد وأنا شاب صغير ، والطموح الثاني أن أقابل صاحب هذا القلم المبدع والرائع ، محمد يحيى ، وبعد البحث والتقصي عرفت أنه يقيم في شقة صغيرة بحي السيدة زينب ، كانت لا تتجاوز الخمسين مترا على ما أذكر ، في بناية قديمة ، يقيم فيها هو ووالدته ، كان هذا العبقري قعيدا ، مصابا بضمور في العضلات كافة ، القدمين واليدين ، لا يمشي ولا يتحرك ولا يقوم ولا يقعد ، إلا أن يحمله آخر ، وكان يقوم بهذا الدور والدته الفاضلة رحمها الله ، وإذا حاولت السلام عليه لا بد أن تصل يدك إلى مستوى جسده لكي تلامس كف يده ، لأنه لا يستطيع أن يرفعه ، لكن إرادة الله أن يتحرك من جسده كف يده ، ليمسك القلم ، ويبدع كل هذه المقالات والكتب الرائعة التي صنعت أفكار جيل كامل من الإسلاميين ، ودرجت على تلك الزيارة كل فترة ، خاصة بعد أن عملت في المختار الإسلامي سنوات عدة ، وأشهد أني تعلمت منه الكثير ، وأعتبره أحد أهم أساتذتي الذين أدين لهم بالفضل ، وكنت ألجأ إليه كثيرا عندما أبحث عن جلاء فكرة ما أو أبعاد شخصية ما ، ثم انتقل بعد ذلك إلى مسكن آخر أفضل حالا بالجيزة . محمد يحيى أستاذ للأدب الانجليزي ، ومع ذلك كانت كل كتاباته تنزع للدفاع عن العروبة والإسلام والحضارة والتاريخ الإسلامي وكل ما يمثل أصالة هذه الأمة ، بينما كان زملاؤه من أساتذة الأدب العربي مثل جابر عصفور ينزعون إلى التغريب والاحتقار للفكر الإسلامي والتمرد على كل ما يشير للأصالة في حضارة الإسلام ، وتلك مفارقة غريبة ومتكررة ، تحتاج إلى تأمل وربما دراسة ، وهكذا كان الراحل الكبير الدكتور عبد العزيز حمودة رحمه الله أستاذ الأدب الإنجليزي ، صاحب المرايا المحدبة ، كان مدافعا صلبا عن أصالة الأدب العربي والفكر الإسلامي وحضارة الإسلام ومناهج النقد العربية الأصيلة ، بينما صلاح فضل مبشر بالثقافة الغربية ومدارسها النقدية ، ربما هي عقدة النقص التي تعمقت عند بعض أساتذة الأدب العربي بينما ذابت وتلاشت بعمق الدراسة والتأمل عند أساتذة الأدب الإنجليزي ، ورغم كل ما قدمه محمد يحيى للثقافة المصرية ولوزارة الثقافة نفسها فضلا عن عطائه الأكاديمي تدريسا وإشرافا على رسائل للماجستير والدكتوراة ، إلا أنه لم يمنح أي جائزة من آلاف الجوائز التي أغدقها جابر عصفور على حوارييه ، حتى أولئك الذين اشتروا شهادات علمية مزورة مثل صاحبه سيد القمني فمنحه جائزة الدولة التقديرية. قبل أيام فاجأني بعض الأصدقاء بأن الدكتور محمد يحيى توفاه الله ، ورحل عن عالمنا ، كانت صدمة ومفاجأة لم يسبقها أي أخبار عن تراجع حالته الصحية ، كما أن أيا من مؤسسات الدولة الثقافية لم تنعه ولم تشر لرحيله ، رغم أن بعض التافهين تسود لهم صفحات طوال وتعقد لهم احتفاليات ضخمة في وزارة الثقافة ، لأنهم "على الهوى الرسمي" ، نسي جابر عصفور صديقه الذي يدين له بالفضل في أعمال كثيرة يعرفها جيدا ويعرفها آخرون بوزارة الثقافة ، وقد قررنا أن نوفيه بعض حقه في صحيفة المصريون الأسبوع المقبل بإذن الله ، فأمثال هؤلاء العظماء لا ينبغي أن يرحلوا في صمت . رحمك الله أستاذي العظيم ، خسارتنا فيك فادحة ، فمثلك لا يتكرر بسهولة ، وأشهد أنك أديت أمانتك بإخلاص وصمت ، أحببت هذا الوطن حتى الثمالة ، رغم أنك لم تر منه إلا الجفاء والتجاهل والإهمال ، وصنعت عالما فكريا من الاستنارة الحقيقية وليست المزيفة ، ألهمت كثيرين ، وعلمت كثيرين ، ودافعت عن هذه الأمة وحضارتها وتاريخها ودينها ، وكشفت الكثير من زيف الحضارة الغربية ، بإنصاف واعتدال وعمق ، رحمك الله .