لا أدرى، وقت قراءة هذه السطور، ما إذا كان الجيش المصرى قد تدخل فى ليبيا بالفعل كما يتردد ؟ كما لا أدرى أيضا هل تطوع الشاطر عمرو موسى، أم كلفه أحدهم هو تحديداً، بمهمة تهيئة الرأى العام لخوض المستنقع الليبى؟ ولصالح أى فريق من المقتتلين هناك ولماذا؟ وهل أُرِيدَ إظهاره إعلامياً كمانحٍ لصك تأييد القوى المدنية المصرية لقرار عسكرى مرتقب؟ رغم أنه، وقت أن كان أمينا للجامعة العربية، كان بشخصه وتدبيره أحد أهم المسئولين عن تحول ليبيا الى ما هى عليه الآن، يوم كان عرّاباً للناتو وفرَّ له المظلة العربية التى شرعنت تدخله لإسقاط الدولة الليبية، إتفقنا مع نظامها السابق أواختلفنا، لتجنى مصر أيضاً ويلات ذلك الى وقت ووضع يعلم الله مداه. وإن صح الحديث وكان التدخل قراراً مصرياً خالصا فقط ولحساب الدولة المصرية وحدها دون مؤثرات أو وعود دولية، فهل تمكن الشاطر عمرو أو غيره، من تدبير عملية إستعواض ذخائر ولوجيستيات الجيش المصرى، والتى من البديهى استنزاف الكثير منها هناك فى ليبيا ؟ وإن كان، فهل ستتولى دول الخليج دفع الفاتورة، ولماذا ؟! ثم وإن تم التدخل دون رضاها أو دون موافقة الطرف الأمريكى منتج ومورد السلاح المصرى، فمن سيعوض ذلك الإستنزاف لجيش تحيط به الضوارى من كل جانب ؟!! وعلى تواضع علمى، فلم يحدث على مرَّ التاريخ، أن تدخلت دولة عسكريا فى شئون أخرى وكانت النتيجة إيجابية لصالح الدولتين، حتى لو كان التدخل من أو تحت رعاية دولة عظمى، كالتدخل فى افغانستان الذى محى الاتحاد السوفيتى من الوجود، ثم التدخل الأمريكى فى أفغاستان والعراق الذى قضى على الدولتين تماما، بينما دفع الجانب الأمريكى ثمن تدخله من دمائه فقط حتى الآن مقابل مكاسبه الاستراتيجية الضخمة، بعد أن تطوع العرب بدفع الثمن المادى لإنتهاك عرض الأشقاء وأرضهم، ولا يزالون ! أيضاً تجارب الناصرية وأوهام الزعامة ودعم الثورات التحررية، التى كانت مجرد حلقات من مسلسل إستدراج الغرب المتصهين لمصر وجيشها، واستنزاف مواردها قيادة وشعباً، جغرافية وتاريخاً، هوية وأخلاقا، وأحياناً بمعاونة أشقاء بكل أسف ! فالتاريخ علَّم أعدائنا، ولم نتعلم نحن، أن فرعون زعم الوهيته بزخم مصر القوية (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، بمعنى أن مصر القوية هى التى منحت الفرعون مسوغ إدعاء الألوهية، فإن وُجِدَت وُجِدَ الفرعون، لذلك يجب إضعافها أولاً، بمواردها ونيلها وتفكيك تاريخها العميق، وتفتيت عقائدها دينية واجتماعية، وإنهاك جيشها، وزرع المشاكل فى أحشائها، والعبث فى هويتها، وتغيير نمط حياتها وأخلاقياتها، تعويضا للفشل فى تدمير تركيبتها الديموجرافية ولحمتها الوطنية المتماسكة البعيدة كثيراً عن الطائفية، فكان الإستدراج للتدخل بقوات مصرية نقلتها، للعجب، الطائرات الأمريكية من مطار القاهرة الى الكونغو على بعد خمسة ألاف كيلو متراً سنة 1960 ، رغم التسليح المصرى الروسى المصدر بالكامل وقتها ! ثم الإسنزاف والإنهاك فى مستنقع اليمن الذى دفع مباشرة الى الحلقة المحورية الأهم فى سلسلة المخطط، أعنى خطة "إصطياد الديك الرومى" كما سماها الغرب أو هزيمة 1967 كما عرفناها، بما يوحيه الاسم من ضرورة كسر غرور الديك وتقليم أظافره وقصقصة ريشه، سواء كان ذلك المنفوش هو مصر القوية أو عبد الناصر. تذكرت تعبير "إصطياد الديك الرومى" هذا، وما سبقه وما تلاه، عند سماعى تعبير "مسافة السكة" الذى أطلقه بحسم المرشح الرئاسى، وقتها، المشير عبد الفتاح السيسى حول تدخل مصر عسكريا الى جانب دول الخليج ضد إيران "الحليف الإمريكى"، رغم كل التحديات المحيطة بأمن مصر القومى، فى تصريح اعتادت الإدارات الأمريكية المتعاقبة النظر الى مثله بمزيد من الإعتبار والحسابات والتدقيق اذا كان مفاجئاً غير متوقع !! ثم تذكرته أخرى مع ما يتردد فى الشارع تواتراً، عن وجود قوات مصرية فى الإمارات، بقيت بعد إنتهاء المناورات العسكرية المشتركة منذ شهور !! ثم تذكرته ثالثة مع ما نشرته التايمز البريطانية من أيام عن نشر السعودية لقوات باكستانية ومصرية على حدودها مع العراق لحمايتها من داعش، وكانه ولا جيش سعودى يدافع عن بلاده ! رغم أن السعودية هى الدولة الرابعة فى ترتيب الإنفاق على التسليح، 35 مليار دولار، متقدمة على بريطانيا ! ثم نفى المتحدث العسكرى المصرى وتأكيده أنه لن يحارب جندى مصرى خارج حدود مصر، لتعاود الصحف المصرية نشر الخبر نفسه بعد النفى مشيرة الى تعبير "مسافة السكة"! الأمر الذى يبعث على الشعور بالخيبة لدى الشارع المصرى تجاه المبرر الحقيقى للدعم المالى الخليجى عموماً لمصر فى أزمتها، ذلك الذى تم تسويقه على أنه تحدياً ظاهراً للولايات المتحدة بينما الأمر على مرمى آخر !! فالخليج سبق وتغاضى عن الأمن القومى العربى ورفض وجود قوات مصرية سورية بعد حرب الكويت، وفضَّل ذلك الأمريكى من ربع قرن ومنحه الوجود والقواعد للدفاع عن مراعيه ضد إيران أو العراق أو أية تهديدات مستجدة كما هو مفترض، دون التدقيق أن ذلك الأمريكى هو محركها الأصلى !! لذلك فكيف يحلّ غيره اليوم محله "مسافة السكة" كما نتصور؟ اللهم إلا إذا كان غيره هذا سيؤدى دورا آخر فى مكان آخر يشهد حرباً حقيقية وموتى ودماء، وبموافقة كل الأطراف، وبعيداً عن الخليج الهادىء بعد تدمير العراق، وفى ظل التحالف "الأمريكى الإيرانى الإسرائيلى" غير المعلن، كجزء من "بروتوكولات ملالى إيران" التى سبق وكتبنا عنها. وإلا فعكس ذلك معناه ببساطة أن الأشقاء هناك كما لو أنهم أنفقوا أموالهم على تسمين ذبح عظيم مستورد فداء لأنفسهم، لكنه فرّ قبل الهَدىّ، أو إدخروه قبل التضحية، فرضوا بذبحٍ آخر بلدى صحيح، لكنه أقل عَظَمَة !! الأمر محير لا نملك معطياته، ولا يصح لغير المتخصص أن يخوض فيه، وأتصور أن قرارات بتلك الخطورة قد مرّت من خلال دائرة مشاورات مصرية واسعة على فرض أنها تمت، أو أنها تحتاج ذلك فوراً قبل أن تتم، مشاورات حقيقية وليس على طريقة فرقعات عمرو موسى، وإن كان الأفضِّل هو حوار الأعراف والتقاليد مع القبائل والعواقل الليبية عن طريق امتداداتها فى مصر، فهى الأدرى بشعابها وأبنائها وأغرابها أيضاً، فإن فشل الحوار كان المزيد من تأمين الحدود، أو فرض منطقة آمنة الى جوارها بغطاء جَوّى، بدلا من الدخول فى مستنقع لم تنج الدول العظمى بهياكلها الإقتصادية العملاقة من مثله، خاصة والتدخل ليس الى جانب طرف واضح محدد يمتلك شرعية ما، حتى ولا البرلمان الليبى المصنوع !! إلا إذا كان الهدف فى النهاية هو إقتسام ليبيا مع الجزائر مثلاً، أو إحلال مصريين وجزائريين محل الشعب الليبى على أرضه !!! الشاهد أن عدم التخصص، وعدم الإطلاع على الصورة بكامل رتوشها وتفاصيلها، لا يمنع من كونها مخاوف مواطن بسيط يثق فى قيادته صحيح، يثق فى جيشه صحيح، لكنه صحيح أن يثق أيضا فى تاريخه ومعطياته وظروفه الحياتية وما يريده الأشقاء ! مواطن بسيط يتمنى أن يكون إطار الرؤية قد اتسع فى عين صاحب القرار ليرى صوراً أخرى لا يمكن فصلها عن صورة ليبيا الآنية بأية حال، كصور الحدود الطويلة مع السودان وفلسطين المحتلة وقطاع غزة وسواحل البحر الأحمر، وما وراء الأردن، وهناك فى سورياوالعراق، وشمال وجنوب السعودية، واليمن وباب المندب، ولبنان مؤخراً، ثم جنوب السودان وأثيوبيا وسد النهضة وما سيعقبه من سدود، الى جانب صور أخرى داخلية كثيرة لا تقل خطورة ولا أهمية، تحتاج جميعها الرباط، دون إنهاكٍ، الى يوم القيامة، قيامة الحرب أو قيامة الدنيا، صور تلتقطها عقول وأفئدة الناس الطيبيين، أولئك الذين يدفعون وحدهم فى النهاية الثمن اذا لم تكتمل تلك الصورة، واللهم لطفك. ضمير مستتر : قدر لرجلك قبل الخطو موضعها، فمَن علا زلقاً عن غرة زلجا ولا يغرنك صفوٌ أنت شاربه، فربما كان بالتكدير ممتزجا محمد بن بشير
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.