بينما أسير في بلد غريب تشابهت علي السبل ولم أعرف في أى اتجاه أذهب لأصل إلى بغيتي ,توسمت خيرا في شخص مهيب مر بي و سألته كيف أصل إلي هدفي ؟ تحدث معي بشئ من التحفظ و الاستعلاء ووصف لي بلغة علمية رصينة خريطة المكان ,شكرته و مضي , أخذت أردد بعض ما قاله لي لكني شعرت أنني لم أستفد كثيرا و لا أستطيع تطبيق تلك المعلومات التي ذكرها , ازدادت حيرتي حتى فوجئت بوجه باش مقبل يسألني عما يهمني و صارحته بمشكلتي . اتسعت ابتسامته المطمئنة وشرح لي ببساطة مدهشة معالم الطريق ثم أخبرني أن هذه هي وجهته ,ازدادت سعادتي و تبعته ,تكرر الموقف مع آخرين و زاد عدد الأتباع خلف الرجل الحاني البشوش. إنها مشكلة الدعاة التقليديون الرسميون في مقابل الدعاة التلقائيون الذين لم يفرضهم أحد و لا يتقلدون مناصب رسمية , لكن الناس هي التى اختارتهم في أصدق و أبسط انتخابات شعبية حقيقية , السبب المباشر لنجاحهم في استقطاب الناس و التأثير فيهم ليس أنهم الأكثر علما أو الأقوى حجة ,بالتأكيد هناك من علماء الأزهر من يفوقهم كثيرا علما و فقها و دراسة و بحثا ,و ذلك على المستوى الأكاديمي و العلمي ,أما عندما يتعلق الأمر بالتعامل المباشر مع الناس فإن هناك شروطا أخري لنجاح التواصل. أهمها الصدق والإخلاص والغيرية ,ولنركز علي مفهوم الغيرية إنها النقيض للأثرة و الأنانية ,عندما يتضخم الإحساس بالذات و يتمركز الإنسان حولها تحجبه عن الناس و تشوه رؤيته للواقع و قدرته علي التواصل مع الآخرين . الانشغال بالنفس يجعل مرآة الذات شاخصة أمام الإنسان حتى وهو بين الناس فلا يرى سوى صورته و مصلحته و كرامته و مكانته و كل ما يعود ضميره عليه ,حتى عطاؤه العلمي يصبح جافا مبتورا. أما الغيرية فهي منحة خاصة يهبها الله لأولئك الذين يتمتعون بالقدرة علي التعاطف مع الناس و الإحساس بهم الذين يمتد عطاؤهم خارج ذاتهم ويسعدهم أن يمدوا أيديهم للآخرين و يدلونهم بمنتهي التجرد و الأمانة على ما فيه خيرهم من الأسباب الهامة أيضا لنجاح التواصل أن تعطى الناس نوعية الاهتمام الذي يحتاجونه هم وليس الذي تراه أنت مناسبا من وجهة نظرك الفوقية ,و في الحقيقة فإن مطالب الناس في غاية البساطة ,يريدون أذنا صاغية و قلبا مفتوحا و قدرة على المزاوجة بين روح الشريعة من جهة وبين متطلبات العصر وهو ما يسميه الفقهاء فقه الواقع. يريدون من يترفق بهم ويأخذ بأيديهم بالتشجيع والكلمة الطيبة وليس بالتهديد والوعيد,يريدون من يشعرون أنه واحد منهم ينخرط معهم فى مشكلاتهم الحياتية ويساعدهم بشكل فعال ومباشر في حلها والتخفيف من وطأتها يريدون من يستشف مشاعرهم ومخاوفهم وهواجسهم ويحيط علما ثم يخرجها للنور موضحا ومفسرا يريدون لسانا يعبر عن حالهم وقلبا يشعر بإحساسهم ونفسا قريبة تواسي أحزانهم ويدا حانية تمسح رأس ضعيفهم ويتيمهم. فإذا شعروا بأنهم وجدوا الشخص المنشود والدليل الذكي الحساس الذي يخرجهم من متاهة حيرتهم فإنهم يتبعونه إلى حيث يقودهم ويضعونه في المكانة المناسبة مكانة القدوة والمثل الأعلى . بالنسبة للشخص الداعية القائد نفسه فإن المسئولية الملقاة على عاتقه تكون عظيمة وخطيرة تجهده ويشعر بعبئها أكثر من إحساسه بمتعتها ووجاهتها. ولذلك كله صعد نجم الدعاة الجدد واحتلوا مكانة ظلت فارغة كثيرا, لا يستطيع أحد أن يصادر اختيار الناس وإجماعهم. لكننا نتمنى أن يعينهم الله على اجتياز هذا الابتلاء الكبير بنجاح ويثبتهم ويهديهم.