منذ سنوات الصغر كان د. مصطفي محمود هو صديقي الدائم أعود إليه عند الحيرة والتشتت والشعور بالغربة من عالم الصخب الذي نعيشه.. تربي عقلي علي كتاباته وقلمي كان يقلد أسلوبه وسنوات عمري ما زالت قليلة بالصف الثالث الإعدادي إلي أن تخرجت في الجامعة. لم أكن أتخيل يوماً ما أنني سألتقي الدكتور مصطفي محمود الذي بهرتني كتبه الرائعة الثرية التي تجيب عن الأسئلة الحائرة التي تصارع عقلي وتلح عليه ولم أكن أجد أي صعوبة في أسلوبه وأفكاره التي كانت تصل للصغير قبل الكبير وإذا كان قد رحل بجسده فإن كتاباته وإبداعاته سوف تبقي «طازجة» مازالت بكراً لم يجف مدادها، وبجولة سريعة للمكتبات تجد كتبه تمثل الدهشة والثورة دائما علي ما هو مألوف وسائد. اعتكاف .. عندما خرجت إلي الحياة بعد الجامعة مباشرة كان أول ما ألح علي هو مقابلة هذا الرجل بأي شكل رغم انعزاله عن الناس والحياة وفي وقت لم يكن يري أحداً أو يسمح لأحد أن يراه وكان قد نال منه المرض وانتقل إلي شقته بالطابق الأخير بالعمارة التي بجوار مسجده الشهير بالمهندسين بعد أن كان معتكفاً في غرفة بهذا المسجد. خطر لي أن أذهب لمسجد مصطفي محمود بالمهندسين الملحق بالمستوصف الخيري الذي بناه لوجه الله رغم يقيني أنني لن أستطيع مقابلته وقد ذهبت بالفعل ودخلت مكتباً داخل المسجد.. سألني أحدهم عما أريد قلت.. أريد مقابلة الدكتور مصطفي محمود وقد كان آخر علمي أنه هنا يعيش بغرفة بالمسجد.. واندهش مدير المكتب وأبلغني أنه ترك المسجد منذ زمن وانتقل إلي شقته بعد أن تغلب عليه المرض قلت.. ألا أستطيع مقابلته. قال: هل هناك مساعدة نستطيع تقديمها؟ عاملوني بمنتهي الرقة معتقدين أنني أعاني من مشكلة إنسانية كبيرة بسبب إلحاحي الشديد في مقابلته، فقال لي المسئول في المكتب: أكتبي مشكلتك للدكتور وسنرسل له خطابك وسيرد عليك.. بالفعل كتبت سؤالا غير مفهوم لأري رد الفعل وكيف يرد علي الناس ومن خلال أي مفهوم وإلي أي مدي ذهنه حاضر بعد المرض.. تركت الورقة وعدت بعد يومين لأتلقي الرد منه كما قالوا لي.. أبلغني الرجل أن الدكتور لم يفهم سؤالي وطلب مني صياغته بشكل آخر. غمرتني سعادة كبيرة شعرت أن هناك أملا بما أنه رد بالفعل.. قلت لهم أريد مقابلته ضروري جداً شعروا أن بالأمر شيئا يخصه بشكل شخصي.. فاتصلوا به في المكتب وبالفعل رد وأعطوني السماعة.. وأنا أتلعثم في كلماتي في عدم التصديق أنني أخاطبه شخصيا حتي أنني ظللت أتأكد من أنه صوته لفترة قلت له: أريد مقابلتك. قال لي: أنا منعزل عن الناس من زمن طويل وقولي لي ما تريدين وأنا سأقدم المساعدة إن شاء الله. قلت: لن أستطع الكلام في التليفون. قال: أعطيني من أمامك.. تحدث إليه.. ووجدت الرجل يفتح لي غرفة جانبية بها مكتب فاخر ضخم ويرفع منها سماعة تليفون آخر وأغلق علي الباب ليتركنا وحدنا أنا والدكتور لأتحدث معه من غير حرج.. فقال لي: الآن أنت وحدك ما مشكلتك؟ قلت: لا شيء فقط تربيت وشب عقلي علي كتبك وعندما كبرت قليلاً ظل حلمي أن أجلس إليك ولو لدقائق هل تري هذا كثيراً علي يا دكتور؟ شعر الرجل بالخجل ولم يرفض أن يرد قارئة صغيرة مثلي وأن يلبي طلبها وكأنه يستجيب لإلحاح طفلة.. قال لي: «لا العفو يا ابنتي طب أديني الرجل اللي عندك.. فتحت الباب وناديت علي الرجل مسرعة الذي تحدث إليه ثم أغلق التليفون اصطحبني الرجل إلي العمارة المجاورة وأمام باب شقته وجدت حارس أمن يقف عليها لا يتركها ليلاً أو نهاراً. اقتحام العزلة لم أصدق نفسي وجدته وحيدا يفتح الباب بنفسه وقد ارتدي البيجامة والروب وبطيء الحركة إلي حد ما وذقنه غير حليقة رحب بي ترحابا شديدا وأجلسني. شقته صغيرة مليئة بالجوائز وشهادات التقدير والصور لأولاده وحفيد صغير جميل في صورة وحده أخذ يعرفني علي الصور بسعادة وفرحة طفولية خاصة حفيده الجميل فهذا ابنه المسافر إلي الخارج وهذه ابنته وهذا آخر العنقود.. حفيدي. قلت له: صحيح يا دكتور المثل القائل «أعز الولد ولد الولد» ضحك ضحكته الشهيرة وقال آه هو شعور جميل وهذا المثل صحيح. كانت كلماته قليلة ويأخذ بين الجملة والأخري فترة ليكمل حديثه وأنا منتظرة فترة السكوت حتي يكمل حديثه لآخر ما يريد أن يقول.. كان يعيش وحيدا وفي طابق آخر تعيش ابنته وزوجته السابقة. سألته لماذا تجلس هنا وحيداً قال: أحب ذلك خاصة أنني أحب أن أتأمل كثيرا ولا أريد أن يزعجني أحد وابنتي أمل لا تتركني وحدي فهي تتابعني. .. بعد قليل من الوقت نزلت أمل ابنته عرفني عليها وعرفها علي وكأني أصبحت قريبة منه تحدثنا قليلا عن مقتل سعاد حسني.. جاء الكلام عنها بالصدفة مع ابنته وسألته عن رأيه في سعاد حسني الفنانة ثم رأيه في مقتلها. قال: هي فنانة كبيرة بلا شك قدمت الكثير من الأعمال الكبيرة ولكن مقتلها شيء غامض فردت ابنته: «المخابرات قتلتها» ولم يعلق سألته عما يفعل في أيامه وفيما يمضي وقته كان يجيب عن أسئلتي بلا تعقيد أو تخوف فقد صارت الجلسة حميمية.. قال: أقرأ القرآن الكريم وأتابع «C. N. N». قلت: كيف تري الواقع الآن؟ قال: ما يحدث صعب والمستقبل لا يبشر بخير بتلك الأحداث.. لم يستوعب عقلي وقتها حديثه في السياسة ولكنني الآن أري ما قاله أصبحت أشعر أكثر برؤيته وبصيرته وأثناء جلستي الحميمية معه داعبني حسي الصحفي فقلت كيف أجلس مع مصطفي محمود ولا أجري معه حوارا صحفيا. حوار في الحب ورغم أن ذلك لم يكن هدفي إلا أنني تصرفت علي وعد ألا أطول عليه وأن يكون الحديث في جزئية بسيطة وخفيفة وليكن الحب والحب فقط وتحديدا إذا تخلي الرجل عن نضجه ووقاره وعظمته وهو في خريف العمر ووقع في حب فتاة في سن ابنته رغم فارق السن والمركز الاجتماعي. فقال: العاطفة بوجه عام ليست لها ضوابط فمن الممكن أن يحب الرجل الكبير فتاة أصغر منه أو أقل منه وتكون العلاقة فاشلة وذلك لأن العاطفة ليس لها عينان وخاصة في السن الكبيرة حيث نجد أن العاطفة لا تكون بصيرة فالإنسان يكون ضعيفا ومستهدفا وأقل شيء يؤثر فيه والعاطفة عموما ليس لها شروط ولا مواصفات فمن الممكن أن تتخطي حدود الجنسية وحدود السن ولكن ليس شرطا أن تنجح وخاصة إن كان يوجد فرق كبير فالعلاقة هنا لا تصل إلي شيء ونهايتها أنها تعذب أصحابها دون داع وذلك الرجل الكبير سوف يفيق في يوم من الأيام. والرجل إذا شعر أنه مرفوض فيجب أن يتوقف وينهي هذا حيث لا يوجد شيء فوق إرادته فالإنسان له قدر من الحرية وعنده بصيرة ولا يجب أن يتحول إلي آلة بحيث أنه يسيطر عليه تماما وإلا أين الحرية وماذا يفعل بهذه الحرية وهو مفروض عليه ألا يعتبر نفسه أسيرا فهذا ليس بصحيح فهو الذي وضع نفسه في الأسر. يستطرد مصطفي محمود رافعا رأسه لأعلي قائلا: إن الله أعطي لنا ملكات لكي نتحرر ولا نكون أداة طيعة في يد فلانة وإلا انتهي هذا الأمر بكوارث فالحب غير المتكافئ والذي يكون من طرف واحد وأيضا مع فارق السن الهائل حيث هي العذراء من سن الربيع وهو ذو الشعر الأبيض في سن الخريف هذا الحب غير المتكافئ يتيح للطرف الآخر أن يستعمله سلاح سيطرة فيمكن لامرأة ماكرة بالرغم من أنها لا تحب هذا العجوز المغمور أن تسيطر عليه ومن ناحيته فإنه يكون قليل الحيلة وغير قادر علي التصرف لأنه يحب.. ولا يسيطر علي ضعفه.. وعموما هذا الحب ينتهي بكوارث وشقاء. رقيب داخلي يؤكد د. مصطفي من المفروض أن يوجد دائما رقيب داخلي.. رقيب داخل الإنسان وإنما كونه يتصور أنه فاقد السيطرة وأسير هذا الحب هنا نكون قد عدنا للروايات المصرية القديمة.. فالإنسان كرمه ربنا بالعقل.. «فكرمنا بني آدم» لماذا؟ ذلك للعقل الذي أودعه فيه وللإرادة والبصيرة التي حباه بهما.. أبعد كل هذا يكون في النهاية مثل الأداة في يد فتاة يحبها وغير قادر علي البعد عنها فرجولة الرجل تبدأ من قدرته علي أن يسيطر علي عواطفه.. وهناك فرق بين حب مع فقدان السيطرة تماما وحب يستطيع الواحد منا أن يتحكم فيه ويعرف متي يقف وإلي أين تؤدي هذه الخطوة!! وهذا هو النضج.. والنضج له دخل لأنها تكون بلاهة عندما يصبح المرء فاقداً السيطرة تماما وإذا حدث ذلك فإنها تكون حالة مرضية وآخرها قبيح ولقد أعطي الله كلا منا سيطرة علي نفسه بحيث يري أين يضع قدميه.. وهل يضعهما في حفرة.. والحصن لهذا هو العقل وكمال الشخصية ونموها.. فالشخصية الكاملة لا يمكن أن يخرج منها مثل هذا الفعل وتلك الحالة المرضية والشخصية الكاملة يكملها العقل ويجملها وكلمة عقل تعني «يعتقل» أي «لجام» والعاطفة ليس لها أن تطغي علي العقل فإذا ما طغت عليه كان العقل هوائيا واللجام مقطوعا ويجب ألا نندفع في هذا فلكل منا ضعفه في نقطة معينة فإذا كانت العاطفة تؤدي به إلي هذا الاتجاه.. أي إلي فتاة صغيرة يحبها فإن هذا الرجل يكون عنده نقص في شخصيته فليس في العادي أن يندفع مثل هذا الاندفاع ومثل هذا الرجل يكون «أبله». كنت أترقب كلام د. مصطفي وأقارن بينه وبين كتاباته بعد أن انتهي حوارنا طلبت منه وعداً بميعاد آخر لأعطيه ما نشر ولكي يقرأ ما كتبته بنفسه أمامي وأتسع صدره لي ووافق وطرت فرحا. نبوءة كاتب كتبت حوارا مع الدكتور مصطفي محمود في الحب ونشر وكان أول ما ينشر لي في حياتي.. أخذت الجرنال وتحدثت إليه تليفونيا وحدد لي ميعادا ذهبت له وقرأ ما كتبت كما أنني كنت كتبت مقالا آخر في نفس العدد غير حواري معه ليقرأني بعيدا عن الحوار.. وقرأ ما كتبت ولم أصدق نفسي لما قاله لي بعد أن انتهي من القراءة حيث علق أسلوبك جميل غير أنه كان يهز رأسه أثناء قراءته للمقال ويقول أوافق علي ما تقولين.. هذا صحيح.. قال سيكون لك مستقبل في الكتابة الأدبية خاصة ولكني أطلب منك شيئا لا تقرئي لي وحدي ولكن أشربي من كل ينابيع الأدب الفرنسي منه والإنجليزي وغيره وأخذ يستفيض معي في شرح الأدب والكتابات. ونزلت أمل ابنته قال لها: «ولاء طلعت بتكتب ولها أسلوب رائع وسيكون لها مستقبل في الكتابة». ابتسمت أمل وقالت «يالا ياستي شهادة من د. مصطفي محمود».. يومها أهداني ثلاثة كتب كانت تواً طبعتها له دار أخبار اليوم بعد أن ترك دار المعارف وتعاقد معها وكان فرحا بأخبار اليوم وبطبعتها الجديدة وكتب لي عليها إهداء وظل ينصحني كأديبة وصحفية وشكرته كثيراً للسماح لي باقتحام عزلته وتطفلي عليه في وقت انقطع فيه عن العالم.