حي الأزاريطة في الإسكندرية في أواخر خمسينيات القرن العشرين كان أكثر أحياء الإسكندرية حميمية بالنسبة لي. كان يبدو مدينة صغيرة قائمة بذاتها, لها طابعها الخاص الذي يميزها عن كل الأحياء المتاخمة لكورنيش البحر المتوسط الواقعة علي خط ترام الرمل ذي الطابقين. شكل الأزاريطة في الظاهر إفرنجي يعمه الهدوء. تستطيع أن تجول في حواريه المحدودة والمتوازية, أن تقيم علاقة صداقة مع كل شئ فيه حتي أحجار العمائر والفيلات, مع الأرصفة العريضة النظيفة, مع بقايا حدائقها العريقة وإن كانت مهجورة. عندئذ يتضح لك شيئا فشيئا أن أولاد البلد سقوا هذه الأبنية وهاتيك الحواري والأرصفة والمقاهي والمحال من روحهم المرحة, فطبعوها بالمزاج المصري, فكأنها ضاحية يونانية مصرها المزاج المصري أو لعلها هي التي تمصرت بمحض اختيارها عشقا في حلاوة الروح المصرية ذات الأريحية الحضارية العريقة. فيها البقال الجريجي يتكلم بالتطجين السكندري في خفة ظل تكشف عن سريرة نقية بريئة مفعمة بالجدية في العمل والمصداقية في التعامل. وفيها ورش لسمكرة وميكانيكا وكهرباء ودهان السيارات لكنها بغير ضجيج بلا صخب. فيها عتقية لرتق الأحذية القديمة, تجاورها فترينات تعرض أفخم الأحذية الجديدة وأفخم الملابس الواردة من أشهر بيوت العالم. فيها ترزية للبدل والقمصان الأفرنجي وللجلاليب البلدي. فيها أفران للخبز البلدي وأخري للخبز الأبيض الفينو بجميع أنواعه وأشكاله. وإلي ذلك كله فيها الحاج فكري أكبر وأشهر زجالي الإسكندرية في عصر ازدهر فيه فن الزجل في الإسكندرية حتي أصبح في كل حي من أحيائها زجال مشهور في مصر كلها: الحاج فكري وهو ترزي عربي وأبو فراج ورزق حسن وسيد عقل ومحمود الكمشوشي ورشدي عبدالرحمن وكامل حسني وأمين قاعود ومحمد مكيوي وكامل الإسناوي وسيد زيادة وأحمد طه النور وغيرهم وغيرهم. وفي حي الأزاريطة يسكن صديقي الأديب الشاب عباس محمد عباس, الذي تعرفت عليه بطريقة قصصية محضة. لا عجب فالحياة قصص داخل قصص من داخلها قصص. كنت آنذاك أعمل مندوب مبيعات في شركة لتصنيع واستيراد البويا, يستغرق خمس أو ست ساعات يوميا, من التاسعة صباحا إلي الثانية مساء حسب ظروف السوق, حيث أركز كل يوم علي حي واحد من أحياء الإسكندرية وضواحيها, ثم أعود إلي مقر الشركة في حي محرم بك. أترك الطلبيات للإدارة لتتولي توصيل البضاعة إلي طالبيها. وكنت أسكن حجرة في بيت في شارع الحياتي المتفرع من شارع عرفان في نفس الحي قريبا من مقر الشركة. في البيت المواجه لحجرتي, في شقة في الطابق الأرضي يسكن ثلاثة من الطلبة الفلاحين مثلي إلا أنهم من قري مركز كوم حمادة. ولم أكن لأعبأ بوجودهم لولا أنني لاحظت أنهم دائما يمسكون بكتب أدبية كنت أعرفها من أغلفتها الحميمة, لإبراهيم المازني وعباس العقاد وطه حسين وسلامة موسي ومصطفي صادق الرافعي وتوفيق الحكيم ومحمد تيمور. هذه الكتب قربت المسافة بيني وبينهم فكأنني اكتشفت ناسا من عائلتي في بلاد الغربة. هم الآخرون شاهدوني أكثر من مرة أحمل نفس الكتب. صرنا نتبادل التحية بحرارة. ثم قام الود بيننا بسرعة فائقة. دعوني لشرب الشاي معهم, فرحبت علي الفور سيما وأنني كنت أشم رائحة الشاي الفلاحي المطبوخ علي نار هادئة تتصاعد من شبابيك شقتهم فتنعشني. دخلت شقتهم, فلم أعد أغادرها إلا للنوم آخر الليل وخلال ساعات العمل القليلة أثناء النهار. أقمت معهم تقريبا. أحدهم طالب في قسم اللغة العربية واللغات الشرقية بكلية آداب الإسكندرية. والثاني طالب في نفس الكلية ولكن في قسم فلسفة واجتماع. والثالث طالب في قسم التاريخ. ثلاثتهم كانوا من قراء الأدب ومتذوقيه. وكانوا مجتهدين في جدية تدعو للاحترام والحب, وكان لابد لهم من الاستفادة من وجودي بينهم خلال المذاكرة التي لا يتوقفون عنها, حتي وهم يتبادلون وجبات الطعام التي نشارك جميعا في تكاليفها وإعدادها بأنفسنا في المطبخ الذي استمرأنا الجلوس فيه. طالب الفلسفة يعطيني كتاب مبادئ الفلسفة ليوسف كرم مثلا مثلا مفتوحا علي الصفحة التي كان يذاكرها منذ لحظات طويلة مضت. ثم يلخص لي ما يتضمنه الدرس من عناصر موجزها كذا وكيت. ومطلوب مني أن أراجعه إذا أخطأ في عنصر أونسي معلومة أو قصر في شرح ما فهمه, وفقا لما أراه في الكتاب. وهكذا الأمر بالنسبة لطالب اللغة العربية وطالب التاريخ.. حتي جاء وقت صرت فيه مؤهلا لأداء الامتحان بنجاح في هذه الأقسام الثلاثة من كثرة ما راجعت, اضافة إلي فرط حبي الشديد لهذه المواد الدراسية التي كنت أراجعها بشغف وتركيز ورغبة حقيقية في استقطاب المعرفة من جميع مصادرها في الكتب وفي الحياة علي السواء. ولذلك فتلك السنوات القليلة من حياتي في الإسكندرية تعتبر من أهم وأخصب فترات حياتي في زمن الشباب المبكر. في نفس الوقت كنت متابعا للصحافة بوجه عام, والصحافة الثقافية بوجه خاص. وكان هناك مجلة جديدة اسمها( البوليس) تصدر عن نادي صباط الشركة يرأس تحريرها أحمد الوتيدي ويدير تحريرها سعد الدين وهبه الذي كان آنذاك ضابط شرطة وفي نفس الوقت طالبا منتسبا بكلية آداب الإسكندرية قسم فلسفة واجتماع. ومن الواضح أنه هو الذي أعطي المجلة طابعا ثقافيا, ولأنه كان يكتب القصة القصيرة فقد أفرد لها مكانا ثابتا علي صفحاتها في كل عدد. وذات يوم قرأت في أحد أعدادها قصة بعنوان:( بلا خوف) لكاتب جديد اسمه عباس محمد عباس. لم يكن عندي أي فكرة سابقة عنه رغم أنني تقريبا كنت أكاد أعرف جميع هواة الأدب بوجه عام في جميع محافظات مصر, وتقوم بيني وبينهم مراسلات شخصية وفي بريد الصحف أحيانا. تلك هي فضيلة الأدب, يدفع هواته إلي البحث عن بعضهم والتآخي والترابط, فليس أمتع للأديب في فترة التكوين من أن يعثر علي رفيق يستمع إليه ويغذي كل منهما الآخر بطموحاته ويضيف إليه خبرات وتجارب مفيدة. فلما أعجبتني قصة( بلا خوف) إلي حد الافتنان تحدثت بشأنها طويلا مع صديق عمري بكر رشوان طالب الفلسفة وأحد الفائزين في مسابقة نادي القصة للقصة القصيرة عام سبعة وخمسين بعد التسعمائة والألف وقد وافقني بكر علي أن قصة( بلا خوف) فيها كاتب موهوب وحريف ماهر في نحت الشخصية وبناء الحدث القصصي وإحكام الحبكة في رؤية فنية مشرقة طازجة. القصة كانت إن لم تخني الذاكرة مروية من وجهة طفل كان وغيره من أطفال الحي يخشون المرور من أمام خرابة يحتلها معتوه ذو منظر مخيف اسمه جمعة, تحاك حوله الأساطير التي تجعل منه سفاحا مجنونا, ولكن الطفل ذاك نطت منه الكرة في الخرابة فاقتحمها ليأتي بها ناسيا أمر جمعة, فإذا به أمام جمعة وجها لوجه, وإذا بجمعه يتودد إليه ويطلب منه بما أنه تلميذ أن يعلمه الكتابة والقراءة. وبالفعل جئ بقطعة من الحجر الجيري, وراح الطفل يرسم بها الحروف الأبجدية علي الحائط, وراح جمعه يقلده في رسمها ونطقها كتلميذ صغير خفيف الظل. ومن شدة سعادة جمعة بقدرته علي رسم الحروف كان كلما خط حرفا تراجع بظهره ليراه من بعيد كفنان يضع الرتوش الأخيرة في لوحته. عند ذاك سقطت حواجز الرهبة وأصبح جمعة صديقا للطفل الدي أصبح يمر من أمام الخرابة مطمئنا بلا خوف.في نفس الشهر والقصة لا تزال طازجة في ذاكرتي, تحدوني رغبة في التعرف علي كاتب هذه القصة الجميلة التي رجحت أن يكون سكندريا لأن القصة تدور في حي شبيه بحي الأزريطة, كما أن اللهجة السكندرية واضحة في الجمل الحوارية, تصادف أن كانت لي مصلحة في احدي الإدارات التابعة لوزارة الشئون الاجتماعية الكائنة في عمارة فخيمة في شارع فؤاد أو لعله شارع النبي دانيال. توجهت إلي الموظف المختص الأستاذ محمد السيد, فإذا هو شاب نوبي, بشرته السوداء مضيئة كأن الشمس تشرق من جبهته الكنزة. ملامح وجهه مسمسمة جميلة جاذبة, رشيق نحيف البدن أنيق في بدلته الكحلية الغامقة. دمث جدا, باسم ضحوك بهدير صوت نوبي ذي نبرة حادة لكنها تعمق فيك الشعور بالطرب والبهجة. للحديث بقية.